/ صفحه 37 /
المخلصين من الأبيض والأسود، ساهم في إقامته رجال من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من بلخ وبخارى وسمرقند وطوس وطبرستان والري والعراق والشام والحجاز ومصر والأندلس وما بينها، وتعبت فيه عقولهم ـ إن صح هذا التعبير ـ واستعملت فيه لبنات نورانية بدل اللبنات الظلمانية المعروفة.
وإذا كانت مرضاة ذلك الشيخ هي الدافع إلى بناء ذلك البيت الصغير، فان الدافع إلى بناء هذا القصر المنيف، هي مرضاة الله في الدارين، وإرضاء الضمير والإيمان والعقيدة، بني باسم الإسلام، وقدمه بناته إلى الاسلام، ليكون في خدمة الإسلام والمسلمين، ولم يكن لحدائقه أسوار تمنع الناس من الدخول فيه، ولا بين أقسامه حواجز تحجب عن الرواد بعض نواحيه، فتوجهت إليه عقول الملايين، وتعلقت به قلوب مئات الملايين، وعبق عطره في أركان العالم الإسلامي وفاح شذاه في أركان الكون كله، وأطلت عظمته على الشرق والغرب.
ذلك قصر الثقافة الإسلامية التي أراد الله أن تكون أعظم مفخرة للمسلمين، وأعظم ثمرة للإسلام، تلك الثقافة التي لم يوح بها أحد، وإنما أوحى بها الشعور والإيمان والرغبة في أن يكون للإسلام ثقافة خاصة ينهل منها المسلمون، واندفع لتحقيق ذلك بنّاؤون من كل شعب مسلم، ومن كل طائفة إسلامية، وتخلوا جميعاً عن كل قومية ولغة، إلا قومية الإسلام ولغة القرآن، فالبلخي نسى بلخيته، والفارسي نسى فارسيته، والبخاري نسى أنه من بخارى، والعربي نسى عروبته وجعلوا أنفسهم في خدمة الإسلام ولغة الإسلام، وخلقوا ثقافة إسلامية، استنبطوا قسما كبيراً منها من الإسلام نفسه، وأخذوا قسما آخر من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، التزموا فيه نهجا لم يلتزمه البناة قبلهم، هو أن يصبغوه بصبغة الإسلام، ويسخّروه في خدمة فكرة الإسلام ليكون ثقافة إسلامية قبل كل شئ، ووفقوا في هذا توفيقاً عجيباً، حتى أنهم أخذوا الفلسفة اليونانية ـ التي كانت تثبت العقائد الوثنية، والتي استغلتها الكنيسة فيما بعد لخدمة التثليث ـ وصبغوها بالصبغة الإسلامية وأثبتوا بها التوحيد والمعاد، ولست بصدد شرح هذا وسأفرد له بحثاً خاصاً.