/ صفحه 383/
من الناس يصلون ويقومون ويصومون، حتى إذا وقفوا امام عقبة الشح والضن بالمال على البذل لم يقتحموها، وفي ذلك يقول الله عزوجل مصورا طبيعة الإنسان " فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة " ولكن الزكاة على ذلك ليست الا تضحية مالية بنسبة ضئيلة تقل عن أصغر ضريبة أهل الاموال على أدائها في أي بلد من بلاد الله وهم لا يشعرون، ثم تاتي بعد ذلك الخطوة الرابعة، وهي صوم شهر كامل متتابعة أيامه، يتخلى فيه المؤمن عن طعامه وشرابه وشهوته إيمانا بالله، واحتسابا لثوابه، ويصبر فيه على كثير مما يقاسي، وتلك منزلة من التضحية أعلى من التضحية في الزكاة، لان التضحية بشئ من النفس أعز وأغلى من التضحية بشئ من المال.
أما الفريضة الخامسة وهي الحج، ففيها ذلك كله على أبلغ وجه، وأكمل صورة: فيها الاعتراف بالله، والايمان برسوله إلى حد الترك لكل ما سواهما من المال والأهل والولد، فيها التوجه إلى الله، لا بواسطة قبلة بينه وبينها آلاف الأميال، ولكن بالرحيل إلى هذه القبلة نفسها، فيها بذل الكثير من المال عن رضى وسخاء، فيها التضحية بالنفس، واحتمال مشاق السفر والاغتراب، والتحلل من سلطان العادة في متع العيش ولذاته، فيها خلع والعمل والكدح وارتداء ثياب التطهر والاحرام والتسليم، وفيها إلى ذلك كله زيارة الله في بيته، والمثول بين يديه في المكان الذي قدسه، والزمان الذي قدسه.
هكذا شأن فريضة الحج: كل ما قبلها بمثابة التمهيد لها، مثل العبد فيها كمثل امرئ أحب ملكا عظيماً، ودان له وهو في طرف من أطراف ملكه بالخضوع والولاء، ينفذ أوامره، وخلص في خدمته، ويقوم بكل ما عليه من واجبات في سبيله، ثم يدعوه هذا الملك العظيم، فيهرول إليه مسرعاً، ويخلع نفسه من كل ما هو فيه، ويأخذ لهذه الزيارة التي ستتم في بيت الملك أهبتها، فيتزين ويتطيب، ويقطع المراحل الطوال حتى يصل إلى غايته، ويحظى بأمنيته !
" ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ".