/ صفحه 416/
وقد اشتهر ـ إلى جانب ما ذكرنا ـ بالتقشف والبخل مما يجعلنا نميل في وصف لباسه إلى ما تقتضيه تلك الطبيعة من غل اليد عما ينبغي لمثله ممن يجالسون الخلفاء والأمراء والوزراء وأصحاب النفوذ في شئون الدولة.
فإذا قلنا ـ بما نعلمه من بعض قصصه عن نفسه، وبما نرجحه من المتعارف عن علماء ذلك العصر ـ: إن الأصمعي كان في الغالب يلبس القميص والجبة، جنحت بنا القرائن إلى أنهما كانا غالبا من نوع خاص تستلزمه طبيعته الخاصة، فما في ظننا أنه كان يعني بلبس الموشيات والمقطعات والمشهرات كما كان يفعل غالب الشعراء والعلماء في ذلك العصر، كما يروي الجاحظ، إلا إذا استثينا ما كان يهبه إياه الخليفة والأمراء والعظماء أحيانا، ولعل ملابسه في جملتها كانت تلتئم مع مثل نعله المذكورة في قصة الخطيب البغدادي قال: " قال الجاحظ كان الأصمعي مانيا (1) فقال له العباس بن رستم: " لا والله ولكن نذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده وهي مخصوفة بحديد، ويقول: نعم قناع القدري نعم قناع القدري، فعلمت أنه يعنيك فقمت ". فها هو ذا يرى أن نعله المخصوفة بحديد، بحال تغنيه في رده على الجاحظ هذا الرد المقذع الذي أخزاه وأقامه من مجلسه، وذكر السيوطي: أنه لم تبيض لحيته إلا لما بلغ الستين من عمره.
والخلاصة: أن الأصمعي كان أسمر اللون، دميماً، أدنى إلى الضالة والقصر ان لم يكن ضئيلا قصيراً، ولكنه كان ظريفا، خفيف الروح، يحب الملحة والنادرة ويرويهما لمحدثه فيعجبه ويضحكه، وكان يلبس القميص والجبة، مخشوشنا في لباسه ومظهره، ولم تبيض لحيته إلا لما بلغ الستين من عمره.
(يتبع)
*(هوامش)*
(1) نسبة إلى (ماني الثنوي) الذي تنسب إليه (المانوية) كان مجوسيا يقول إن صانع العالم اثنان: فاعل الخير نور، وفاعل الشر ظلمة، ويقول: هما قديمان لم يزالا ولن يزالا سميعين بصيرين، وان النور لا يقدر على الشر ولا يجوز منه، والظلمة لا تقدر على الخير ولا يجوز منها، ورد عليهم في ذلك بأنه لو هرب مخلوق فاستتر بالظلمة فهذا خير وقع في شر، ومن هنا أخذ المتنبى معنى بيته:
وكم لظلام الليل عندي من يد ***** تخبر أن المانوية تكذب