/ صفحه 53 /
بقائله في الإجماع وظل الحال على ذلك أيضاً ـ ولكن على شئ من الضيق ـ شيئاً فشيئاً حتى اكتسحت العالم الإسلامي موجة المغول التي قضت على تلك الامبراطورية وأتت بنيانها من القواعد.
وفي الحق لم يكن مجئ المغول ليعني قيام دولة وذهاب أخرى فحسب، ولكنه كان في الواقع صراعاً بين نوعين من التفكير لم يعهد لهما اجتماع ولا تقارب من قبل، فللغول قانونهم، ولهم نظامهم، ولهم شريعتهم، إلى غير ذلك مما لا نريد الاطالة فيه فمرجعه كتب التاريخ التي عنيت بهذه الناحية، وللمسلمين أيضاً طرائقهم في التفكير، وشريعتهم، وسنتهم، وفقههم، ولكن مجئ المغول قد عنى من الناحية السياسية أن ينقل عبء الدفاع عن الإسلام وتقاليده وميراثه إلى مصر. ذلك أنه لم يكن ثمت في أي بلد من البلاد الإسلامية ـ وقد نخر في عظامها جميعاً السوس ـ دولة أو دويلة أو أقليم ينهض للقيام بهذا العبء غير مصر فكان من الطبيعي أن يولي العالم الإسلامي وجهه شطرها لتقف سداً ضد ذلك السيل الجارف الذي لم يبق في طريقه علماً، ولم يقف في طريق جبروته سلطان، بل اكتسح كل ما كان لهذه الدول الضعيفة من أثر وحاول أن يعفى على رقيها ومدنيتها، ولم يَكذب المماليكُ أو لم تكذب مصرُ ما رجاه العالم وما شامه فيها من مخايل فاضطلعوا بالعبء صابرين. وأدوا رسالة الإسلام أمام ذلك السيل الجارف، واستطاعت مصر بعد بغداد ومكة والحجاز أن تحمل مشعل الثقافة الإسلامية في شتى نواحيها، وكان من الطبيعي أن يتلو ذلك ارتحال الجمهرة الغفيرة من العلماء إلى مصر ليعيشوا في كنف هذه الدولة التي أبلت البلاء الحسن في الدفاع عن الإسلام وكان منهم المحدثون والمفسرون واللغويون والنسّابون والأطباء والأخباريون وكان منهم بعد هذا وقبل هذا الفقهاء ويحسن أن ننبه القارئ إلى أننا حين نتكلم على مصر يحسن أن يطبق القول على الشام والأقاليم التي دانت بالخضوع للمماليك واستظلوا بسلطانهم.
تلك كلمة عابرة قدمناها بين يدي الموضوع ليكون القارئ على علم بمقدمات هذه الظروف التي سنعرض لها ونتحدث على ضوئها عن الفقه والفقهاء.