/ صفحه 89/
ولم تقف الخلافات والآراء عند دائرة المعارف الفكرية الكلامية، بل شملت الفقه والأحكام التشريعية المستنبطة، غير أنها لم تكن في هذه الناحية الأخيرة عنيفة ولا مشتطة، وإنما كانت تجري في هدوء وسكينة ووقار، لا يسيطر عليها إلا العلم والحجة والبرهان، وذلك في عهد الأئمة المجتهدين، ومن بعدهم من تلاميذهم الذين أشربوا مبادئهم، وساروا على سنتهم، فلم نعرف أن أحداً منهم رمى غيره بالخروج على الشريعة، أو المروق من الدين لخلاف بينه وبينه، ولم نعرف احداً زعم لنفسه أنه هو وحده صاحب الرأي المقدس في الشريعة، أو فكر في حمل الناس على ما يراه، بل كلهم ورد عنه ما يدل على أنه مجتهد قد أتى بما وسعه أن يأتي به، ويحتمل أن يكون مصيباً وأن يكون مخطئاً، وأن العمدة في ذلك كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. وما ارتضاه المسلمون من قواعد الشريعة واصولها العامة، وها هو ذا مالك رضي الله عنه يصرف أبا جعفر المنصور عما همَّ به من حمل الناس على (الموطأ) ذاكراً له أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد تفرقوا في الأمصار وعند كل منهم علم، وليس من الرأي أن يحمل الناس على كتاب ما إلا كتاب الله.
هكذا كانت ريح الفقه تجري رخاء، ولذلك نما وزكا، وأينعت ثمراته، ودنت قطوفه، ووفَّى أعظم التوفية بحاجات المسلمين أمة ودولة وأفراداً، وحفظ به التاريخ أعظم تراث فكري في الأحكام التشريعية والمبادئ الإصلاحية التي تقوم عليها الأمم.
ولذلك أيضاً استطاع الفقه الإسلامي أن يقف عالي الرأس عزيزاً كريماً فلم يغزه يومئذ فقه فارسي ولا فقة روماني ولا فقه يوناني، على كثرة ما دخل بلاد المسلمين من علوم هذه الأمم وثقافاتهم، وعلى ما عهد في المسلمين من ترحيب بالنافع من هذه العلوم والثقافات، وتلقيه بسماحة وحسن قبول.
ثم جاءت بعد ذلك طبقات من المقلدين والمتعصبين للمذاهب، كلَّت هممهم عن حمل ما كان يحمله سلفهم من العلم والنظر، وصادف ذلك عهود الضعف السياسي