/ صفحة 151 /
الإنسان وربه، ولا حاجب يستأذن له في الدخول إلى درجات قدسه، ولا شفيع يشفع في التقرب إليه ونيل رضاه، فإن القرآن الكريم لم يذر وسيلة موصلة إلى إنعاش العقل وتحرير الفكر إلا تذرع بها، فهو إذا تحاكم فإلى العقل، وإذا حاجّ، فبحكم العقل، وإذا سخط فعلى معطلي العقل، وإذا رضي، فعن أولى العقل.
يقول الإمام الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية):
(إن أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، واتفق أهل الملة الإسلامية، إلا قليلا ممن لا ينظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بمادل عليه العقل، وبقى في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه. والطريق الثانية: تأويل النقل مع مراعاة أساليب اللغة وقوانينها، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العمل. وبهذا الأصل الذي قام عليه النظر في الكتاب وصحيح السنة، مُهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من طريقه جميع العقبات).
غير أنه مما لا شك فيه، أن العقول متفاوتة في استعداها، متباينة في طاقة إدراكها، وأن الأفهام مختلفة في قدرتها، والأذهان متنوعة في سعتها وضيقها. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة إشارة بيانية، وتدل عليه دلالة رمزية، قال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها).
قال ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين):
(شبه الله الوحي لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأدوية، فقلب كبير يسع علما عظيما، كواد كبير يسع ماء كثيراً، وقلب صغير، إنّما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها).
فنزل القرآن الكريم منه آيات محكمات واضحة الدلالة، مشرقة المعنى، وهي أصل الكتاب وغالبيته. ومنه آيات متشابهات غامضة في معناها، غير نص في دلالتها لا يصل إلى عمقها إلا من منحوا العقل الراجح، والفهم الثاقب، والموهبة الممتازة، قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب