/ صفحة 374/
وملئت بهم وبأتباعهم السجون، كما فعل بمدحت باشا، والسيد جمال الدين، وخير الدين التونسي، وغيرهم. فما السر في ذلك؟
يظهر أن السر في ذلك يرجع إلى أمور كثيرة. منها: أن الجو الحار الذي يعيشون فيه يبعث على الخمود، والخمود يبعث على الكسل، والكسل عدو الابتكار، ولذلك لما تغيرت البيئة على المهاجرين إلى أمريكا جددوا في الأدب مثلا بعض الشيء، كما فعل جبران خليل جبران، وايليا أبو ماضي، وأمثالهما. واعترضوا على هذا بأن الأندلسيين حكموا قرونا وكانت بيئتهم أبرد غالباً، ومع ذلك كانوا عالة على الشرق يقلدونهم ويحتذون حذوهم. فوجب أن يكون هناك سبب غير هذا. وقد يكون السبب أنه غلب على المسلمين منهج المحدثين من عهد المتوكل على الله إلى اليوم، ومنهج المحدثين منهج اعتماد على النقل أكثر من الاعتماد على العقل، فخيم هذا المنهج على عقول المسلمين في كل فرع من فروع العلم. حتى كانت حجتهم في صحة نظرية أنها وردت في بعض الكتب. ومنها أنه لم يرزق المسلمون بشخصيات جبارة تحتذي، كما رزق الغرب. أمثال پولتير ولوثر، ولو رزقوا مثل هؤلاء لقلدوا، ولكننا نتساءل أيضاً لماذا لم يرزقوا بأمثال هؤلاء الجبابرة؟
والجواب: أنه قد يكون هذا محض مصادفة. وكان في الإمكان أن لا يكون لوثر ولا يكون پولتير، وأيضا قد يصح أن يكون قد وجد في تاريخ المسلمين أمثال پولتير ولوثر، ولكن خنفتهم بيئتهم وخنقهم الأمراء المستبدون، فلم يتسع لهم المجال، ولو كانوا لتغير وجه التاريخ، خصوصاً وأن العادة جرت في الشرق ألا يشجع المبتكر ولكن يخذل ويسخر منه، كما فعل بالأنبياء من قبل، ((فريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون)) ونحن نرى أن الشيء إذا أتى به غربي شجع وقلد وهلل له، وإذا أتى به شرقي خذل واستهزىء به ورفض! فهل آن الأوان للقيام من هذه الكبوة والنهضة بعد هذه العثرة؟ ان كل الدلائل تدل على ذلك.
فالعصبية القومية قد تجعل الشرقيين يتعصبون لشرقيتهم فيشجعون من نبغ منهم، والوعي القومي وقد تنبه يجعلهم أحسن تقديراً، وأكثر اعتدالا. وأقل