/ صفحة 401/
يلوك بلسانه ما لم يؤمن به قلبه، ويشترى بالرفعي الخالد في الوجود ظلا زائلا في دنياه، ذلك هو حال رجل الدين الذي يحترف بدينه مع شيعته ومريديه.
وانسان يتحدث عن الوطنية دون أن يكون وطنيا هو مستغل كذلك لهذه القيمة الرفيعة، ومتوسل بها إلى تحقيق غايات خاصة وأماني فردية، يفسر خطوات حياته على أنها مقدمات ايمانه بالوطنية، والذي يعشق الوطنية أو الذي يجعلها هدفا لا وسيلة، لا يتخذ مقدمات لها، وإنّما يأتي بنتائجها، وهي تشبه نتائج الايمان بالعقيدة: من التضحية، والشعور بالمتعة حينما يضحى.
و أثر الاحتراف بالوطنية يتعدى دائرة الشخص المحترف إلى مجتمعه الذي يعيش فيه ـ وكذلك شأن كل احتراف بقيمة من القيم الرفيعة ـ ويتجاوز معنى التغرير والخداع إلى التشكيك في القيم ذاتها وافساد تصورها لدى من يغررون ويخدعون اليوم إذا هم استيقظوا غدا على اثر اصطدامهم بالواقع.
و الذي يتخذ من السياسة وفن الحكم أداة لغاية مستترة، ويمارسها على نحو ما يمارس أية حرفة أخرى يتوسل بها ولا يهدف إليها نفسها ـ هو بلا ريب محترف بقيمة رفيعة، وضرر احترافه يتناول أيضاً أمته وشعبه، وأقل أضراره تفريق الأمة إلى أحزاب وطوائف تتنابز وتتخاصم، لأنه لا تكون السياسة والحكم حرفة الا عندما يرفع رجلها مقياس العدالة، والا عند ما يسود تحكيم الاهواء والرغبات الخاصة في تدبير أمور الناس ومعالجة أحوالهم.
* * *
و الاحتراف بالقيم ينعدم في الجماعات البدائية، لأنها لم تصل بعد إلى ادراك هذه القيم، فتصورها قاصر على المحس والمشاهد، وأهدافها محصورة لذلك على ما يحس ويشاهد، شأنها في ذلك شأن الطفل الذي لا يتجاوز ادراكه حد ((ذاته)) وبيئته القريبة.
و يقل في الشعوب المتحضرة، وهي الشعوب الرشيدة التي تكون فيها رأى عام ناضج، اد عن طريق نضوج الرأي العام لا يختلط على الشعب من هو صاحب القيمة الرفيعة المؤمن بها العاشق لها ومن هو المحترف بها.