/ صفحة 9 /
أكانت متدينة أم غير متدينة؛ ندرك تماماً أنه ما من أمة بقيت وقويت واستقر وجودها، واشتد ساعدها، واستمر لها الملك والسلطان، إلا كان الاحتياط من هذه الثغرات شأنها ودينها، وما من أمة أكلها الدهر، وأفتنها الحياة، إلا كانت ناحية أو أكثر من هذه النواحي مصدراً لنكبتها وما صارت إليه، (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا).
ولعلنا ندرك إذا انتهينا من هذا التطبيق، ووافانا التاريخ الصادق بالمثل عليه في جانب الإيجاب والسلب؛ لعلنا ندرك أن القرآن الكريم بإشارته إلى هذه المبادئ، وتحذيره من هذه الثغرات في مقام تكوين الأمم والاحتفاظ بعوامل بقائها؛ لم يفاجئ الناس بما ليس من سنن الله في كونه، ولم يكلفهم بغير ما تقضي به طبيعة الوجود، أو بما لم تجربه التجارب في مختلف الأمم والأزمان والآباد.
ولعلنا إذ ندرك هذا، ندرك أيضاً أن ورود هذه المبادئ الاجتماعية الدقيقة، وهذه الارشادات التي لا يعرفها ولا يدرك آثارها إلا من رسخت في السياسة والاجتماع والتاريخ أقدامهم، وكانوا طول حياتهم في بحث وتنقيب عن علل الاجتماع، وما تبرأ به تلك العلل، وليس من المعقول أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بنشأته المعروفة، وفي بلده المحدود، وفي محيطه المعروف، قد وصل بنفسه إلى ذلك العلم، وأحاط به هذه الإحاطة الشاملة الكاملة التي تناولت علل الظاهر، وعلل الباطن، وعلل الداخل، وعلل الخارج، وأبرزه ذلك الإبراز القوي في تلك المناسبات التي تلتئم بمواضعها كل الالتئام، فسبحان من علمه هذا العلم، وأوحي إليه بهذا البيان (إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى).
ولنرجع إلى هذه النداءات فتعرض لها بعد هذه المقدمة بشيء من التفصيل: كان أول هذه النداءات هو قوله تعالى:
(يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم).