/ صفحة 134 /
وهذا فريق آخر يرى: أن الله يخلق الضلال في العبد ابتداء واستمراراً، وليس للعبد قدرة على فعل ما، أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما، وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم انتحلوا للتخلص منها شيئاً سموه: كسباً، وصححوا به في نظرهم قاعدة التكليف، وقاعدة العدالة، ونسبة الأفعال، وحاصل معنى هذا الكسب هو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة، أي أن الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها كما يقولون، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد، وكلف بالفعل، وسئل عنه، وجوزي عليه، ولا ريب أن تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة (كسب) على أنه بهذا المعنى الذي يريدون لا يصحح قاعدة التكليف، ولا قاعدة العدالة والمسئولية، لأن هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه ويجازى عليه، والفعل كما يقارن القدرة يقارن السمع والبصر والعلم، فأي مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد? وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له، وقد قال بعض العلماء: إن كسب الأشعري وظفرة النظام وأحوال أبي هاشم ثلاثتها من محاولات الكلام.
وهذا فريق ثالث يرى: أن العبد يفعل بإرادته وقدرته اللتين منحهما الله إياه ابتداء واستمراراً في دائرة ابتلائه وتكليفه. ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء فينسبه إلى العبد، والضلال استمراراً فينسبه إلى الله إضلالاً منه للعبد جزاء على ضلاله، فهناك لا يهم زيغ من العبد باختياره، ثم إزاغة من الله عقوبة له على ذلك الزيغ، هناك انصراف من العبد عن الحق، ثم صرف من الله للعبد جزاء هذا الإنصراف.
والذي نراه كما قلنا أن للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية والله يترك عبده وما يختار لنفسه، فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه، وإن اختار الشر تركه فيه