/ صفحة 204 /
وأسروه، وشجر اللبلاب يسمى العصب ومن شأنه الإلتفاف على ما حوله، والعصب أيضاً الطي واللي والشد وضم ما تفرق من الشجر، وفي ذلك ما فيه من معنى الجمع والإستئسار، والعصب أيضاً القبض على الشيء؛ وعصبة القوم هم الذين يتعصبون له فيميلون إليه؛ وهذه المعاني وما شابهها لا يرتضيها الدين الصحيح والملة السمحة في مجال الدعوة والهداية، لأنها بسبيل عميق من دواعي التبغيض والتنفير.
والإسلام الحنيف الذي جاء ليهدي الإنسان ويتمم له الدين ويرسم له الدستور الأكمل والطريق الأقوم للسعادة دنيا وأخرى في كل زمان ومكان؛ دين يربي أهله على هذه السماحة الدينية العالية، التي تترفع عن صغائر العداوات، وتتعالى عن تافه الجدل، وتتسع أخلاقها حتى تحسن إلى الناس جيمعاً في مواطن الإحسان، وتتنزه عن العصبية الذميمة والحمية العمياء؛ وفي الكتاب والسنة والسيرة والتاريخ عشرات النصوص والشواهد والحوادث الموضحة لذلك؛ وقد بسط القدماء والمعاصرون القول حول هذا في أكثر من موضع وبأكثر من أسلوب، فما بنا من حاجة الآن إلى الخوض في هذا الموضوع بإسهاب أو إطاب.
ولكنا نريد أن نعرض مظاهر السماحة الدينية عند حاكم من حكام المسلمين، عاش في عصر من العصور المضطربة الموحية بالإستبداد وسوء الإستغلال، ولكنه رغم ذلك أبدى ضروباً عدة من الرفق بغير المسلمين، ومن التباعد عن التعصب المشين.
ذلكم هو أحمد بن طرلون الذي تتبعت سيرته، فطالعتني منها مواقف تتجلى فيها هذه السماحة بصورة تدعو إلى الدراسة والعرض، وتفيد قومنا، وتوحي إليهم بحب التآلف والتآخي، وخاصة فيما بينهم، فإذا كان المسلم القويم يجد من دينه ما يحرضه على السماحة والإنصاف مع مخالفيه في الدين، فهو أشد حرصاً على أن يظهر روح الأخوة ـ لا العدالة فحسب ـ مع أمثاله المسلمين، وصدق التنزيل:
(إنما المؤمنون إخوة).
لم يستبح ابن طولون لنفسه وهو حاكم على مصر أن يرهق قبطها بشيء