/ صفحة 277/
درجات فى العبارات وقلة الفهم، بحسب تفاوتهم منها بالقرب والبعد; كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاطه ومقايسة; فقلت: ان نقص أهل الاندلس عن مقادير من رأيت فى أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان فى هذه الاوطان! فلما وصلت إلى الاندلس وجدت أعذب الناس لساناً، وأفصحهم بياناً، وأنفذهم أذهاناً(1)
وأعان على هذا أن سلطان الفقهاء كان سلطاناً قاهراً، وأن معالجة الفلسفة أو التنجيم عندهم، كانت الكفر أو دونها الكفر، فما يشاع عن واحد أنه يشتغل بأحدهما أو كليهما حتى يرجم بالاحجار، أو يحرق عليه بيته; وبقى الأمر على ذلك لايشتغل أحد بالفلسفة أو التنجيم الا سراً; حتى النصف الثانى من القرن السادس على يد أبي يوسف يعقوب بن عبدالمؤمن، وابن رشد وأستاذه ابن طفيل.
ولم يعكر هذه البيئة العربية، تلك الكثرة الغامرة فى الجند الفاتحين من البربر، لأن بلادهم الاصلية ليست الاندلس، ولكنهم طارئون عليها، فهم إلى أن يتأثروا أقرب.
* * *
بقيت الصبغة الاموية تسود المجتع الاندلسى فى جميع مظاهر حياته، طيلة القرن الثانى كله; يمده تلك الهجرة المتصلة فى سبيل المال والعلم، من الاندلس إلى المشرق، ومن المشرق إلى الاندلس، حتى إذا أظلت سنة 206، وقام بأمر الاندلس عبدالرحمن الثانى ابن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل; وفد عليه زرياب المغنى تلميذ اسحق بن ابراهيم الموصلى فى جميع أسرته وأهل بيته، فاستقبله استقبال الملوك، وأنزله داراً من أفخم الدور، وأجرى عليه من المؤن والارزاق ما لا يكاد يصدق.
وكان وفود زرياب على الاندلس حدثاً تاريخيا خطيراً، نقل مظاهر المجتمع من أموية عربية تقليدية، إلى عباسية فارسية طريفة.

ــــــــــ
(1) نفح الطيب ج 2 ص 84 ط أزهرية.