صحفة 299 /
دعائمه وأركانه، لانه شرع صالحا لكل زمان ومكان، وإن سفه المكابرون وحجد المبطلون، وقد من الله عليهم فآتاهم من مواهب فضله وخزائن حكمته ما أشرقت به أقطار الدنيا بأسرها، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، فسعد به الناس في دنياهم وآخرتهم. وهؤلاء الاخيار كان بينهم من حسن الثقة والاخاء، وتبادل المودة والولاء، ما يتناسب مع سمو رسالتهم، ويتجاوب مع نماء عزتهم وقوتهم، وبقاء مجدهم ودولتهم، فلا تحاسد ولا تباغض ولا عصبية ولا عنجهية ولا جدال إلا بالتي هي أحسن، وقد حافظ أصحاب الفقه على هذه المبادء الكريمة أجيالا متعاقبة، فأبو حنيفة يروي عن مالك بن أنس ومحمد بن الحسن الشيباني يلازم مالكا ثلاث سنين، والشافعي يقول: أخذت من محمد وقر بعير من علم، وما رأيت رجلا سميناً أخف روحا منه، ومالك يعين الشافعي على نوائب الدهر. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ثم خلف من بعدهم خلف لم يسيروا على هذه المبادء وجعلوا الأمر خصومة ولددا وكان من دعاوى بعضهم على الحنفية أنهم أصحاب الرأي يريدون بذلك أنهم يقدمون الرأي على حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيكون الرأي بزعمهم تابعاً للكتاب، سابقاً على الحديث في الحجة والبرهان، وسأناقش هذه الدعوى مناقشة علمية لا تحدى فيها ولا تعصب على أحد. ولنبدأ في تحليلها وتحريرها فنعرض أولا للكلام على الحديث والرأي.
أما الحديث وهو أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله وتقريراته، وفليس هناك ما يدعوا إلى شرحه وبسط القول فيه، لان أهل العلم عامة يعرفونه حق المعرفة، ويضعونه في المنزلة التي ينبغي أن تكون له، فلا يصح تقديم الرأي على الوحي، كما لا يصح تقديم الهوى على العقل، وأما الرأي فهو مصدر لرأي الشيٍء يراه ثم غلب استعماله في المرئي نفسه، وهو اسم المفعول، ولرأي مصدر ان آخران هما الرؤيا والرؤية. فالرأي فيما يعلم بالقلب بعد فكر وتأمل، وطلب