/ صفحه 151/
وأمما، وتجمعهم كتلة متماسكة، وبنيانا متراصا، في وقت تتمنى الأمم المختلفة أن تدرك مثله، وتعمل جاهدة دائبة على تحقيقه، إذ ترى فيه سعادتها، وأمنها، وقوتها، وتبذل في سبيله أغلى ما تملك، في حين هيأه الله لنا باللغة سهلا، ميسرا، بغير بذل ولا جهد، وهي أقوى رباط، وأوثق صلة، فأي حماقة هذه التي تدعونا إلى إهمال ما تسعى الأمم جميعا إليه، وتجري وراء إدراكه في غير ضن ولا هوادة؟
(د) وهل درى أولئك الدعاة ما قرره علماء الاجتماع - بحق - أن اللغات العامية قاطبة في بقاع الأرض المختلفة عاجزة عن التعبير الدقيق عن الخلجات النفسية والمشاعر القومية، قاصرة قصورا فاضحا عن الإبانة الوافية في النواحي الدقيقة من العلوم والفنون والآداب الرفيعة؟ وأنهم أجمعوا على أن الخير كل الخير في رفع العاميات إلى مكانة الفصحى ومستواها، لا الهبوط بالفصحى إلى حمأة العامية ودركها.
وبعد. فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، وليس من الشجاعة المحمودة الإصرار على الباطل، دفاعا عن العجز الشخصي الفردي، وتلمسا لراحة النفس راحة زائفة خداعة يزول أثرها سريعا، ويعود الألم بعدها أطول زمنا، وأعنف شدة، وما أجدرنا أن نفيء إلى الحق، وندع المكابرة جانبا، فهي بغير العقلاء والمنصفين أولى، وأن نكف عن تلك الدعوة البغيضة التي تتردد في فترات مختلفة، إما عن جهالة بمغبتها، وغفلة عن سوء نتائجها في نواحي حياتنا الثقافية، والخلقية، والعملية، وإما عن حقد دفين لأهلها، والناطقين بها، وألا نخدع بما يقوله المستعمرون وربائبهم وأبواقهم من طعن في الفصحى، وغمز في مناحي قوتها وتشويه جمالها، فتلك شنشنة المستعمر، يتجه بنظره أول ما يتجه إلى لغة الأمة الضعيفة، ودينها، ليتخلص منهما، ويأمن الكفاح العنيف الذي ينهال عليه من طريقهما، ثقة منه أن لغة الأمة المغلوبة تذكرها بماضيها الكريم، وحاضرها الذليل، وتدعوها إلى الموازنة والنظر، والعمل للتخلص مما هي فيه بمختلف الوسائل الميسرة وغير الميسرة، وأن دينها يدعوها إلى الدفاع عن كيانها، واسترداد كرامتها، ومقاومة المعتدي، وانتزاع حريتها في غير هدوء، ولا ملاينة، ولا استسلام، وذلك شر ما يصادفه الاستعمار، وأقسى ما يلاقيه المستعمرون.