/ صفحه 190/
دفعا لاعتدائهم علينا، وهذه الأمور التي ذكرت في الآية لم تكن تتحقق في ذلك الوقت إلا في أهل هذه الدولة، وسأبين أن هذه الأمور يدخل فيها اعتداؤهم علينا بالقتال، بل سأبين أن دولة الروم كانت متحللة من مسيحيتها، في ذلك الوقت، وأن جاهليتها الوثنية كانت تغلب عليها أكثر من المسيحية، فتجعلها تعتدي على المسلمين بالباطل، بعد أن راعوا لها نصيبها الضئيل من المسيحية، فآثروها بالعطف في حربها مع الدولة الفارسية المجوسية، وتمنوا لها النصر عليها، فكان جزاؤهم منها الاعتداء عليهم بالقتال، لأنها كانت في سياستها لا تراعي دينا ولا شرفا ولا مروءة، وإنما كانت سياستها بعد المسيحية امتدادا لسياستها الوثنية، تقوم على إيثار الجنسية الرومية، وتحكم بالاستبداد والطغيان كل من يخالف هذه الجنسية، ولو كان ممن يوافقها في المسيحية، وكان شأنها في هذا شأن أمم أوربا الآن، ليس لها من المسيحية إلا اسمها، لأنها تحذو حذو هذه الدولة في إيثار السياسة الآثمة على الدين، ولا تتظاهر بمسيحيتها إلا في الشرق، لتفرق بها بين أبنائه، وهم أرغى منها لحق الدين، وقد عاشوا جنبا لجنب لا يفرق بينهم دين، ولا يؤثر فيهم مثل تلك السياسة الآثمة، ولا شك أن هذه السياسة التي تقوم على التعصب للجنسية والقومية ليست في شيء من المسيحية الصحيحة، لأنها دين إنساني عام كالإسلام، ليس فيها تفريق بين الشعوب، وليس فيها تعصب لشعب على شعب.
ولا بد أن أذكر أولا تفسير من سبقني لهذه الآية إلى السيد محمد رشيد رضا ثم أذكر تفسيره لها بعد تفسيرهم، ثم أذكر تفسيري لها، لأفصل فيه ما أجملته أولا.
فالتفسيرات المتداولة ترى أن هذه الآية تدل على عدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر، وعلى عدم تحريمهم ما حرم الله ورسوله، وعلى عدم تدينهم بدين الحق، بل ادعى بعضهم أنها نص في ذلك، وغرضهم من هذا أن هذه الصفات ليست قيودا في شرعية قتالهم، بل هي بيان للواقع لا مفهوم لها، فلا يقال إنه إذا وجد من أهل الكتاب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحرم ما حرم الله ورسوله إليهم على المختار من أن المراد بالرسول عند كل منهم رسولهم، ويدين بدين الحق في اعتقادهم - فإنه لايدخل في هذا الحكم، وقد ذكر الفخر الرازي أن هذه الصفات