/ صفحه 379/
كيف تدرج صاعدا من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا وهابطا، ويستحيل بعض الأوقات… ثم انظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذرله؛ وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الطبيعي لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل؛ وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا)).
ولعل الذي جعل الباحثين لا يفطنون لرأي ابن خلدون في استحالة الأنواع بعضها إلى بعض، وفي انطباق هذا القانون على الإنسان وصلته بفصائل القردة، أن كلمة: ((عالم القردة)) في النص السابق قد حرفت في جميع طبعات المقدمة المتداولة في العالم العربي في العصر الحاضر إلى كلمة: ((عالم القدرة)) بتقديم الدال على الراء، فاضطرب بذلك معنى العبارة وخفى معناها على الباحثين، فخفيت بذلك نظرية هامة قال بها ابن خلدون في ارتقاء الكائنات وتطورها، وسبق بها دارون وغيره من جماعة ((الارتقائيين)) بنحو خمسة قرون، وإن اختلف رأيه عن رأيهم من بعض الوجوه.
* * *
وقد جاء هذا المعنى نفسه في عبارة أكثر وضوحا في فصل من الفصول الفرعية التي تزيد بها طبعة باريس لمقدمة ابن خلدون عن الطبعات المتداولة في العالم العربي. وذلك أن طبعة باريس للمقدمة، وهي الطبعة التي أشرف عليها المستشرق الفرنسي كاترمير، وظهرت سنة 1858، تزيد عن الطبعات المتداولة الآن في العالم العربي (و كلها منقولة في صورة مباشرة أو غير مباشرة عن طبعة الهوريني المصرية التي