/ صفحه 383/
ومكن لنا من نظمها ونثرها تمكينهم منها، وأطلق لساننا في العصور المختلفة صحيحا فصيحا كما انطلق لسانهم، وأجرى كلامنا في حدود مضبوطة سليمة كالتي يجري فيها كلامهم، وإن كان ذلك منهم طبيعة، ومنا تطبعا؟
إنه النحو؛ وسيلة المستعرب، وذخيرة اللغوي، وعماد البلاغي، وأداة المشرع والمجتهد، والمدخل إلى العلوم العربية والإسلامية جميعا. فليس عجيبا أن يفرغ له العباقرة من أسلافنا، ويعكف عليه جهابذتهم يجمعون أصوله، ويثبتون قواعده، ويرفعون بنيانه شامخا ركينا في إخلاص نادر، وإيمان عميق، وصبر لا ينفد، ولقد كان الزمان يجري عليهم بما يجرى على غيرهم من مرض، وضعف، واحتياج؛ فلا يقدر على انتزاعهم مما هم فيه، أو تحويلهم عنه كما كان يقدر على سواهم، ولا ينجح في إغرائهم بمباهج الحياة ومتعها كما كان ينجح في إغراء ضعاف العزائم، ومرضى النفوس؛ من طلاب المغانم، ورواد المطامع. ولقد يترقبهم أولياؤهم وأهلوهم الساعات الطوال من الليل والنهار فلا يظفرون بهم إلا خلسا من الوقت مثل حسو الطير، بل قد يترصدهم الموت فلا يقع عليهم إلا في حلقة درس، أو قاعة بحث، أو جلسة تأليف، أو ميدان مناظرة، أو رحلة مخطرة في طلب علم. وهو حين يظفر بهم لا ينتزع معهم، ولا يذهب بآثارهم بذهاب أرواحهم؛ إذا كانوا يعدون لهذا اليوم عدته من قبل فيدونون بحوثهم، ويسجلون قواعدهم ويختارون خلفاء من تلاميذهم يهيئونهم لهذا الأمر العظيم، ويشرفون على تنشئتهم، وتعهد مواهبهم إشراف الأستاذ البارع القدير على التلميذ الوفيّ الأمين؛ حتى إذ جاء أجلهم ودّعوا الدنيا بنفس مطمئنة، واثقة أن ميدان الإنشاء والتعمير النحوي لم يخل من فرسانه، وأنهم خلفوا وراءهم خلفا صالحا يسير على الدرب، ويحتذي المثال، وربما كان أسعد حظا، وأوفر نجحا من سابقيه، وأدراك لما لم يدركه الأوائل.
على هذا النهج الرفيع تعاقب طوائف النحاة، وتوالت زمرهم في ميدانه، وتلقى رايته نابغة عن نابغة، وألمعيّ في إثر ألمعيّ، وتسابقوا مخلصين، دائبين، فرادى وزرافات في إقامة صرحه، وتشييد أركانه؛ فجاء سامق البناء، وطيد