/ صفحه 384/
الدعامة، مكين الأساس، حتى وصل ألى أهل العصور الحديثة التي يسمونها: ((عصور النهضة)) قويا، ركينا، متينا، من فرط ما اعتني به الأسلاف، ووجهوا إليه من بالغ الرعاية.
تلك كلمة حق يقتضينا الإنصاف أن نسجلها؛ لننسب الفضل لذوية، وإلا كنا من الجاحدين. لكن أهل هذه العصور الناهضة لم يمدوا نهضتهم إليه، ولم يبسطوا سلطانهم عليه، ولم يتناولوه بما تناولوا به غيره من تجديد يبعث الحياة في قديمه، أو تنظيم يجمع ما تفرق منه، أو نوع من الإصلاح والتيسير يشيع فيه البهجة، ويحببه إلى النفوس، ويبعد عنه ما اشتهر به من جفوة، وقسوة، وقصور. واكتفوا من تقديره بأن أوسعوا له مكانا في خزائن كتبهم، وتركوه يغط في نوم عميق؛ لا يوقظونه ولا يتيقظون له. إلا حيث يدعوه داع من رجال الأزهر فيجيب؛ مع همس الدعوة، ووهن الإجابة، وكيد الزمان، وانصراف الناس.
وقد يناديه المنادي من وزارة التربية والتعليم أن أقبل؛ فبنا بعض الحاجة إليك، ولكنها حاجة المستكمل لا المضطر، والمتجمل لا المفتقر، ودعنا نتخير، ونتصرف، ونختصر، ونتحرر، فعصورك الأولى غير عصورنا وأنت مخلوق لزمان غير زماننا؛ فيقبل في خجل، ويمشي على استحياء، ويسلم الأمر للزاهد فيه، الراغب عنه، ويرضى بما يصيبه منه. ولوأن أهل العصور الحديثه بذلوا في إصلاحه وتقويمه بعض ما بذلوه في غيره، أو وجهوا إليه اليسير من اهتمام أسلافهم -لكان نصيبه في النفع أوفى، وأثره في الإفادة أعم، ولكان به شأن أي شأن في نشر الحضارة العربية، وإقامة دعائمها، وتجديد معالمها بما يلائم الحياة القائمة، ويساير العصور الحديثة.
ليس من شك أن التراث النحوى الذي تركه أسلافنا نفيس غاية النفاسة، وأن الجهد الناجح الذي بذل فيه خلال الأزمان المتعاقبة جهد لم يهيأ للكثير من العلوم المختلفة في عصورها القديمة والحديثة. بيد أن النحو كسائر العلوم الأخرى؛ تنشأ ضعيفة ثم تأخذ طريقها نحو النمو، والقوة، والكمال، بخطا وئيدة أو سريعة