ـ(139)ـ
لكن الملاحظ ـ مع الأسف الشديد ـ أن هذه الوظيفة بالرغم من أهميتها أخذت تتعثر مع بداية القرن التاسع عشر، وخاصة بديار المشرق لقد احتفظت بلاد فارس بالوظيفة بالرغم من تعثرها، ولكن إلى سنة (1305 هـ = 1926 م) عندما أخذت وظيفة الاحتساب تندمج شيئاً فشيئاً ضمن المؤسسات العصرية التي ظهرت في البلاد.
وبالنسبة للمغرب الأقصى: فبالرغم من محاولات الحماية الفرنسية القضاء عل الوظيفة وإذابتها فيما أنشأته من أجهزة إدارية إلاّ أن الملك محمّد الخامس ـ ومعه كتلة العمل الوطني في مطالبها لعام 1934 م ـ أصر على الحفاظ على هذا الإطار، وعززه بسلسلة من الإجراءات التي رسخت اسم المحتسب في الساحة السياسية.
وبعد استرجاع المغرب لاستقلاله وتحرره من ربقة الاستعمار، عدنا إلى تكوين طائفة كبيرة من المحتسبين، الّذين توزعوا على مختلف المدن للقيام بمهامهم، تعززهم السلطة فيما يقومون به، من أجل السهر على تنظيم حركة العمران، وإبداء الرأي حول تصاميم الأبنية، بما فيها أبنية الأسواق والمعامل (1). وقد كنت ضمن الأساتذة الّذين وقع عليهم الاختيار لتكوين الفوج الأول من المحتسبين الّذين يمارسون اليوم نشاطهم بشتى جهات المملكة المغربية.
ولا أدري إذا ما كان من حقي أن أدعو هنا ـ بهذه المناسبة ـ إلى إحياء هذه الوظيفة التي أعتقد أنها في حاجة إلى رؤية جديدة. إنها إذا كانت بالأمس واجبة للحفاظ على جدية السوق، فإنها اليوم أكثر وجوباً وأوكد؛ لأن الحياة اليومية بما اعتراها من تعقيد وتراكم أمست بحاجة ماسة إلى توظيف أكبر عدد من الأكفاء؛ لخلق ضمير مهني أوّلاً، وعلاج بعض الحالات، ولضمان الأمن الغذائي والأمن الخلقي.
إنّ رجال الإدارة مهما بذلوا من جهد للتعرف على حاجات السوق فسيبقى الشيء الكثير على كاهل المحتسب، الذي تنعته المرددات الشعبية بأنه "فضولي"، يعني: أن عليه ليس فقط أن يبحث، ولكن لتتملكه غريزة البحث حول كلّ الجزئيات مهما صغرت؛ لكي يوفر للمجتمع حياة مزدهرة تقوم على احترام القانون وكرامة الإنسان.
__________________________________
1 ـ محمّد العلمي في "تقييم الحسبة منذ انبعاثها"، عمالة الدار البيضاء آنفاً (1988م).