الشيخ قاسم: أزمة كورونا هي أزمة فَقْد دين وإنسانية وضمير

الشيخ قاسم: أزمة كورونا هي أزمة فَقْد دين وإنسانية وضمير

رأى عالم الدين البحريني آية الله الشيخ عيسى قاسم أن أزمة فيروس «كورونا» عرت العالم، وكشفت عن أزمته الأخلاقية «الخسيسة» ووحشيتها.

وأكد سماحته في كلمة أن أزمة «كورونا» ستعري أكثر وأكثر لو استمرت الأزمة الأخلاقية في هذا العالم، وهي أزمة رؤساء ودول كبيرة وصغيرة وزعماء، وأزمة حكام ووزراء وملوك ورؤساء جمهوريات، وأزمة فَقْد دين وإنسانية وضمير، مشيرًا إلى سرقة الدول لكمامات دول أخرى ومصادرتها بما يعرض فقراء معوزين للمرض ثم الموت.

وأضاف الشيخ قاسم أن تشديد الحصار على دول تعاديها دول البطش والعدوان ليأخذ منها الوباء مأخذه هو تعبير عن الأخلاقية الخسيسة ووحشيتها، وهي الأخلاقية التي يعيشها الكثير من رؤساء العالم وزعمائه الكبار.

وهذا نص الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم أمة الإيمان والإسلام

بارك الله لكِ من أمة مجيدة بذكرى مولد الإمام المُنقِذ إمام العصر محمد بن الحسن المهدي المنتظر “عجل الله فرجه وسهَل مخرجه”.

وهذا حديثٌ في المناسبة، إنه لبعضُ حديث:

أنطلق من هذه النقطة:

تُظهِر المقايسة لكلِ ناظرٍ -ولو نظرةً سريعة- بين عالم اليوم والأمس من حيث التقدم العلمي المادي والصناعي والنظري، تُظهر هذه المقايسة فارقاً هائلاً بين ما عليه مستوى العالم في هذا البُعد بالأمس وما عليه مستواه في البُعد نفسه اليوم، يوجد فارقٌ هائل وكبير جدَاً، ومسافة واسعة بين المستويين، يمتاز عالمنا اليوم بتقدمٍ علمي مادي صناعي ونظري.

مع هذا الفارق الهائل الضخم، إذا نظرتَ إلى مستوى الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن الإجتماعي والأمن المعرفي والأمن على الحياة وجدتَ أيضاً فارقاً كبيراً بين ما عليه العالم اليوم من مستوىً علمي مادي متقدِم جدَاً وبين ما هو عليه من مستوىً أمني في كلِ هذه الأبعاد حيث المعاناة الصعبة وحيث التذمُر وحيث التمزُق وحيث المأساة، هذه نقطة، وهي فيما يتعلق بالعالم عموماً.

ونقطةٌ أخرى فيما يتعلق بالأمة الإسلامية أمة الكتاب الكريم والسُنة المطهرة، هذه الأمة تؤمن في مُجملِها وبصورةٍ اجمالية بالكتاب والسُنة، وفي الكثير من أبناءها هو أنهم يعدُون الكتاب والسُنة مرجعاً للحياة ولمسيرة الحياة ليس فوقه مرجع، ولا يوازيه مرجع.

هذا هو الإيمان، هذه هي الأمة الإسلامية في إيمانها وتوجهها الإجمالي وبصورة ظاهرية، لكن حين نأتي لواقع الأمة نجده واقع ضعف وتخلُفٍ واهتزازٍ وذلٍ وهوان، أمة محكومة مقهورة لإرادة الأجنبي وتحت سيطرة المستكبر، وتعيش أنظمةً سياسية تتصادم مع توجهها ومع دينها ومصلحتها.

نعم.. هذا مع أنها ترفع شعار الكتاب والسُنة وقد تُحامي في بعض الحالات عن الإسلام بصورةٍ تُشير إلى اعتزازها به.

إذن، أمة ترتبط بالكتاب والسُنة وتؤمن بهما درجةً من الإيمان وتراهما المرجع من ناحيةٍ نظرية، وتأخذ بهما في صلاةٍ وصيامٍ وحجٍ وفروض أخرى.

هذه الأمة وهي تعيش مأساة الضعف والتخلُف ويُفرض عليها واقع الذل والهوان، إلى أي شيءٍ ترجع مشكلتها؟ هنا مشكلة وهذه المشكلة لابد لها من سبب ومصدر، مصدرها الكتاب والسُنة واتباعهما أو مصدر المشكلة الأمة نفسها؟

هذا السؤال يطرحه الواقع العملي لهذه الأمة، وهو يفتحُ باباً أو قُلْ فَتَحَ باباً واسعاً لاستهداف الإسلام من الناحية الإعلامية لإسقاط قيمته وإرجاع مشكلات هذه الأمة إلى هذا الإسلام الذي تؤمن به.

بسبب هذه الأمة الإسلام مُتهم، القرآن مُتهم، السُنة مُتهمة، الرسول “صلى الله عليه وآله” مُتهم عند من لا يعرف الإسلام ولا القرآن ولا السُنة.

لِمَ أمةٌ يقودها الكتاب في الظاهر، وتؤمن بالكتاب والسُنة، يبدو تماماً بأنه غير قادرٍ على توحيدها وعلى الإرتفاع بقيمتها، وعلى إحداث الفاعلية الإيجابية عند أبناءها التي تُعطيهم موقعاً غير الموقع الذي هم فيه.

أندري أن هذه الأمة التي تؤمن بالكتاب يأتي فيها فهمٌ مختلفٌ مع القرآن إلى حدِ التناقض؟ وأن الباب مفتوحٌ ليس للمرجعيات الفكرية الكبيرة بل إلى مَنْ لا يحقُ له أنْ يدعي المرجعية في هذا الأمر، الباب مفتوحٌ للجميع بأن يُعطوا الرأي في القرآن وأنْ يُقدِموا فهمهم للقرآن، وأن هناك معركةَ مذاهب، ومعركة سياسات -ولنتجاوز المذاهب ونذهب إلى السياسات-، والسياسات تقتَتِل على ما هو الفهم الصحيح للقرآن في مجال قيادة الحياة وأن له تدخُلاً في قيادة الحياة أو ليس له تدخلا، له نصيبٌ في ساحة السياسة أو ليس له نصيبٌ في ساحة السياسة.

هل أن القرآن قد قال كلمته في الحُكم أو لم يقُل كلمته في الحُكم؟ هل للإمامة مفهومها الخاص في القرآن ومستواها الخاص ومواصفتها الخاصة أو أن القرآن لا شأن له بذلك كله؟

إن هذا محلُ اختلاف ومحلُ اقتتالٍ في صحافة الأمة وفيما تُنتجه من مؤلفات، إذن أين هذه الأمة من الإسلام والانتساب إليه الانتساب الجدي الذي ينهض بها لو كان الإسلام قادراً على النهوض بها وهو قادرٌ فعلاً.

التطبيق حتى لِمَا يُفهم فهماً صحيحاً من القرآن، والرأي المُستنبَط الذي يوافق ما عليه القرآن، إلى أي حدٍ تجد الأمة حالة تطبيقٍ له؟

إن تطبيق مثل هذا الفهم إذا كان له نصيبٌ فهو في مساحةٍ محدودة، في شريحةٍ مجزوءة من هذه الأمة، وأغلبية الأمة تسير في الكثير من جوانب حياتها خاصة في المجال الإجتماعي والسياسي على غير هدى القرآن.

الفكر الذي يُوَجِه دفَة السَير في هذه الأمة فكرٌ مستورد في الكثير، فكرٌ يُصادِم فكر القرآن وأتى البلاد الإسلامية ليهدم فكر القرآن ويُنسي المسلمين مسألة القرآن.

إسلامُنا اليوم في كثيرٍ من جوانبه إسلامٌ مُزَوَر، إسلامٌ مكذوب. مِن الإسلام ما هو مُغيَب، ومِن الإسلام ما هو مُزَوَر، ومِن الإسلام الذي يعيشه الناس اليوم ما هو مكذوب.

فإذن لا يُنسَب التخلُف للإسلام، ولا تُنسب الفرقة للإسلام، ولا يُنسب الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة إلى الإسلام، فلنبحث عن سببٍ آخر، السبب في الحقيقة هو البُعد عن الإسلام.

كما أن العالم كله يغرق في المأساة لنسيانه ربه، ولتخلِيه عن المنهج الإلهي القويم كذلك هي أمتُنا في كثيرٍ من جوانب حياتها وواقعها.

وحيث لا دين بحقٍ يحكُم العالم لا انضباط، لا خُلُق، لا أمانة. العالم بلا دين عالمُ سرقات، عالمُ خيانات، نَهْب، قتل، استهتار، جنون، مظالم، مفاسد، لا تُعدُ ولا تُحصى، وهذا هو عالمُنا اليوم في أكثره.

أزمة فيروس كورونا -ولم يمضِ من عمرها الكثير بالقياس إلى الزمن، وسَمِها أزمة الفارث الفَتَاك- عَرَت وتُعرِي أكثر فأكثر لو استمرت الأزمة الأخلاقية في هذا العالم، وهي أزمة رؤساء ودول كبيرة وصغيرة وزعماء، أزمة حكام ووزراء وملوك ورؤساء جمهوريات، إنها أزمة فَقْد دين وإنسانية وضمير، وحيث يضيع الدين تُضيَع الإنسانية ويضيع الضمير وتُطوى صفحة الخُلُق.

التعامل مع الناس على مستوى التعامل مع القطيع -قطيع الغنم أو البقر أو الثيران- الذي يُترك ليأخذ منه الفيروس ما يشاء إلى المقابر ومن بعد ذلك فليبقَ من يبقى وذلك بعد امتلاء مقابر العالم، مقابر انجلترا ثم مقابر العالم من جثث الآدميين الذين لا تزيد قيمتهم -في نظر صاحب هذه الكلمة والتي أطلقها وهو من رؤساء الوزراء، رئيس وزراء لبلد كبير- قيمة، لا تزيد عنده قيمة هؤلاء الآدميين على ما هي عليه قيمة الحيوان.

سرقة الدول لكمامات دول أخرى، ومصادرتها هي أخلاقية هذا العالم المريض في مثل هذه المحنة، سرقة في مثل هذه المحنة! والسرقة لكمامات فقراء، لكمامات معوزين يتهددهم المرض ثم الموت.

تشديد الحصار على دولٍ تُعاديها دول البطش والعدوان ليأخذ منها الوباء مأخذه هو تعبيرٌ عن الأخلاقية الخسيسة ووحشيتها، وهي الأخلاقية التي يعيشها الكثير من رؤساء هذا العالم وزعماؤه الكبار.

وأمثلة كثيرة أخرى وبشاعات عظمى تكشف عنها مدرسة البلاء الفيروسي لو تابعها الاحصاء القادر على تغطيتها لتكشف عن السُخف الأخلاقي الذي يعاني منه العالم ابتداءً من سادته، من الوحوش الماديين الصِرف ما يُذهل العقول ويُرعب النفوس ويُسقط قيمة الإنسان في نظر الإنسان.

ماذا يفقد العالم وماذا سيجد لإنقاذه؟

مرَ أن العالم في مأساة، ومرَ أنَ الأمة الإسلامية التي يُراد لها أن تقود مسيرة الهدى في الأرض، وأنْ تُحرِر الإنسان من ربقة العبودية للإنسان وأنْ تُنقذه من كل مشكلاته وترتفع بمستواه وتأخذ به إلى أفقٍ بعيدٍ من الكرامة والعزة والمجد، هذا العالم ماذا يفتقِد؟ وماذا سيجد حتى يُنقذه ما سيجده؟

هذا العالم مأساته هنا، أنه يفقد الإحساس بالعبودية لله عز وجل والتي لا مخرج له منها، أمرُ عبودية الإنسان لله وربوبية الله للإنسان ليس أمراً يختاره الإنسان يُقرِر أنه صحيحٌ وواقعٌ أو ليس بصحيحٍ وواقع، هذا الإنسان مكتوف اليد، مجبورٌ مقهورٌ أنْ يعترف بعبوديته لله، والدليلُ وجداني، فمن يُحب أن يموت لولا أن يكون محكوماً لإرادةٍ أخرى؟ من يُريد أن يحتاج إلى الحمام لولا أنه تحكمه إرادةٌ أخرى؟ من يسره أن يمرض؟ من يسره أن يفقد أحبته؟ من يسره أن يشيب؟ من يسره ما نراه أن يحدث في حق كل إنسانٍ من ضعفٍ ووهنٍ ويمكن أن يحدث لهذا أو ذاك من جنونٍ وخَبَلٍ وما إلى ذلك؟

نعم، الإنسان يريد أن يُنكِر واقعاً وهو محكومٌ لهذا الواقع ومأسورٌ له، وهو واقع عبوديته لله تبارك وتعالى، وحتى هامش الحرية الذي أُعطِيَ للإنسان لم يُعطَ له لأنْ يخرج من قدرة الله في هذا الهامش. أنتَ تختار أنْ تأكل أو لا تأكل، أن تخرج من بيتكَ أو لا تخرج، ولكنكَ غير مُستقلٍ حتى في مثل هذا، بإرادة الله تملك إرادة الخروج وعدم الخروج من بيتك، بإرادة مُتدفقة عليك، تتنزل عليك آناً بعد آن باعطائكَ حرية أن تتحرك أو لا تتحرك وإلا فأنتَ محكومٌ لله عز وجل، حياتكَ بيده، قراركَ مهما كان لك هامش حريةٍ فيه يرجع بالأخير إلى تقديره سبحانه وتعالى وحاكميته.

نعم، المأساة في هذا الإنكار للعبودية لله عز وجل، وفي إدبار الإنسان عن دين الله ومنهجه الذي قدَر الله سبحانه وتعالى وقضا بأنْ لا يكون علاجٌ لمشكلات الإنسانية إلا بهذا المنهج، هذا دواء لداء الإنسانية. الإنسانية دائها موجود، داء الأنانية، داء التزاحم، داء التنافس، حبُ الظهور، الدوافع المادية، كلها تخلُق حالة تدفع الإنسان للاصطراع والاقتتال والتكالب على الدنيا والتهارش على ما فيها.

هناك دواء يعالج غلواء هذه الاندفاعة، ويتحكم فيها ويضبطها، وهو منهج الله الذي أرسل به رسله وأنزله في كُتبه لقيادة مسيرة الحياة وتربية الإنسان على هدى الله تبارك وتعالى.

وحيث الداء لا ينقطع ذاتياً، والدواء مرفوض فلابد أن تتفاقم المشكلة ويكون الهلاك ويكون الدمار.

مع هذا الفَقْد، فَقْد الإحساس بالعبودية، والتخلي عن منهج الله الذي أنزله لسعادة عباده في الدنيا والآخرة، مع هذا لا يُجدي علمُ دينٍ أو علمُ دُنياً، علم الدنيا بكل تقدمه وتوسعه وامتداده لا يحلُ المشكلة ما دام الدين منسيَاً وما دام استكبارٌ على الله عز وجل واعراضٌ عن منهجه الصِدق. وحتى علم الدين لا يحلُ المشكلة، الدين إنما يحلُ المشكلة بعلمه حين يتحول هذا العلم إلى شعورٍ يملأ النفس إلى إيمانٍ عميق، إلى يقينٍ بقيمة هذا الدين، إلى خوفٍ من الله عز وجل، رجاءٍ لله عز وجل، حبٍ لله عز وجل، حين يتحول إلى بصيرةٍ تعيشها النفس وتخضع لسلطانها كل المشاعر وكل الدوافع.

العلاج أو المخرج، وما ينتظره العالم حتى يجد نفسه عند شاطئ الأمان، وحتى يتوفر له كل أمْنه المفقود -والذي مرَ الكلام عن بعضه- الحلُ في دينٍ حق، والإسلام هو الدين الحق. في الدين علماً، وفي الدين قيادةً، وفي الدين عملاً ونظاماً يحكم الحياة. إنْ لم يكن ذلك فلابد أن يكون التمزُق والشقاء والدمار والإقتتال وسقوط قيمة الإنسان.

كلما التحملت الأرض بالسماء وتَلَقت من عطاءها، -وعطاءات السماء عطاءات حياة ونمو واخصاب وكرامة وعزة وشموخ ومجد ورِفعة وسمو، هذه العطاءات عطاءات خيرٍ لا تنقطع- حَيَت وأخصبت، وكانت كل يومٍ من حياتها جديداً في قوته وهدايته وبركاته وخَصبه وهداه.

وكلما انفصلت الأرض عن السماء ذَبَلَت فيها الحياة، وذهبت وذَهب رونقها، وانتهت، وكانت المشكلة واتسَعَت الأزمة وانفَتَحَ باب الهلاك.

وما هو اِلتحام الأرض بالسماء؟

عزيزي.. لو أن الأرض كانت تملك إرادة الرفض والقبول، ورفضت مطَر السماء، ورفضت شُعاع السماء، ورفعت ما يرتبطُ بها من نظام السماء المؤثر عليها، هل ستُنبِت؟ هل ستبقى حياة مادية؟ هل سيكون حيوان؟ هل سيكون إنسان؟ لا شيء على الإطلاق، ذلك هو جانب الحياة المادية، حياة الأبدان، وحياة الروح -وهي التي تقود حياة الأبدان- أيضاً لا شيء، تموت الأرواح في داخل الإنسان، تموت روح الإنسان الإنسانية، تموت قَبْسَة النور من روح الله عز وجل، تختفي نفخة الروح الكريمة وتندثر وتنتهي إذا انقطع إنسان الأرض عن تلَقي فيوضات السماء. إذا رفض علاقته العبودية بربوبية الله تبارك وتعالى، إذا استكبَر على منهج الله، إذا نَسِي دين الله -وهو منسيٌ- فهو حيوان يعيش ببدنه ما دامت الأرض تستقبل مطر السماء وشُعاع السماء وتتعامل مع نظام السماء كما فرَضت، لكن روحه وقد انقطعت عن السماء، قد قاطعت السماء، لابد أنْ تَذبُل، تتلاشى، تنتهي، وهذه هي مأساة العالم اليوم.

فإلتحام الأرض بالسماء لا أعني به أن تتلقى شُعاعها ومطرها فحسب، إذ لابد والمعنيُ في المقام هو أن تتلقى فيوضات السماء الروح، أن تتلقى ما تحتاجه وهي محتاجةٌ كل الحاجة إلى هدى السماء، إلى المنهج الإلهي الذي لا غيره يُحسن قيادة الحياة، وقيادة الإنسان المخلوق لله وحده، وهو العَالِم به، لابد من خضوها للقيادة من اختيار السماء وليس للقيادة من اختيار نفسها.

وكلما حَكَمَت الأرض السماءُ كلما ملئها الهدى والبركات وعَمَها الأمن والخير أمطرتها السماء بالنِعَم الكِثار الغِزار. وإذا أَبَت الأرض أن تحكم نفسها مستقلةً عن إرادة الله، وحاكمية الأرض هي حاكمية الجهل والقصور والغرور والجشع ودناءة النفس المُستعبدة للمادة وروح الإستكبار، وفي ذلك كله كل كارثة وكل ضياع وكل خَسَار.

أما ما سيجدُ في هذا العالم، وما سيوافيه هذا العالم من فَرَج، فدعونا نقرأه في هذه النصوص:

عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن جعفر بن بشير، ومحمد بن عبدالله بن هلال، عن العلا بن رزين القلا، عن محمد بن مسلم، قال سألتُ أبا جعفر “عليه السلام” عن القائم “عجل الله فرجه” إذا قام بأي سيرةٍ يسير في الناس، فقال يسير بسيرة ما سار به رسول الله “صلى الله عليه وآله”.

تلك السيرة المُغيبة عن واقع الأمة وعلى مستوى قرون، وهذه السيرة عندما يَجدُ وجودها على الأرض لن تحكم رقعة البلاد الإسلامية المعروفة وإنما ستكون هي المنهج في كل العالم.

كان السؤال عن القائم “عجل الله فرجه” بأي سيرةٍ يسير في الناس، فقال بسيرة ما سار به رسول الله “صلى الله عليه وآله”، فقائد جديد على هذا العالم هو شخصيةٌ من شخصية رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”، هذا الشخص فيما اعتادت عليه الرسالات صناعتهُ للسماء فيها عنايةٌ خاصة وتدخلٌ خاص كما كان رسول الله “صلى الله عليه وآله”، صُنِع على عين ربه، وربه الذي اصطنعه اصطفاه للنبوة والرسالة، وكان صِنع أهل بيته “صلوات الله عليه وعليهم أجمعين” من هذا الصنع، واصطفاهم الله عز وجل للإمامة، هذا الإمام الجديد القائم منهم “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”.

الصناعة التي تُنتجه لا يمكن للتربية في العالم اليوم أنْ تُنتِجَ مثله، فلابد أن لا يولد اليوم من جديد وهو لا يحمل ميراث النبوة، مَن ينقذ هذا العالم من يحمل ميراث النبوة ويتوفر على العلم الواقعي بالكتاب والعلم الواقعي بالسُنة، ويعرف تماماً ما صَدَر عن رسول الله وما لم يصدر، وما هو صِدقٌ مما نُقِل عن رسول الله وما هو كذب، ويعلم بما أُخفي من الإسلام، ويعلم بما كُذِبَ به على الإسلام، مُنقِذُ اليوم ليس من جنسٍ آخر غير جنس المُنقذ بالأمس، المنقذ بالأمس شخصية مصنوعة على يد الله الصنع الخاص ومزودة بالوحي، لا وحي اليوم، لكن الحاجة للوحي قائمة مع عدم وجود وحيٍ بعد رسول الله “صلى الله عليه وآله”، فليس من سبيلٍ للتوفر على كلمة الوحي اليومَ بصِدْقِها وأصالتها ونزاهتِها وطُهرِها إلا عن طريق رجُلٍ تلقى علم رسول الله ليس عن اجتهاد، وهذا ما يُحتم أن يكون الإمام القائم “عليه السلام” مولوداً قَبْل.

أقرأ الرواية الصحيحة، قال سألتُ أبا جعفر “عليه السلام” عن القائم “عجل الله فرجه” إذا قام بأي سيرةٍ يسير في الناس، فقال يسير بسيرة ما سار به رسول الله “صلى الله عليه وآله” حتى يُظهر الإسلام.

مَحط الكلام هنا، الإسلام غائب، مدفونٌ تحت الأرض، تحت الركام، ظهرت مشكلة، إذا ظَهَر الإسلام ترتفع المشكلة، الإسلام على يد مَنْ؟ أي إسلام؟ الإسلام الواقعي. على يد مَن؟ على يد مَن يكفر به؟ من يؤمن به نصف الإيمان؟ من يأخذ بوعظٍ ولا يأخذ بوعظ؟ لا.. مِن قيادة لا تُغادر صغيرةً ولا كبيرةً من الإسلام إلا وأخَذَت بها عن علم واقعي بهذه الصغيرة وهذه الكبيرة، هذا هو المُنقِذ.

..حتى يُظهر الإسلام، قلتُ وما كانت سيرة رسول الله “صلى الله عليه وآله”، قال أبطَل ما كان في الجاهلية. بعد الجاهلية ليس له حكم، تصلح الأرض بانتهاء حكم الجاهلية في الفكر والشعور والميدان العملي.

.. قال أبطَل ما كان في الجاهلية، واستقبل الناس بالعدل. والعدلُ قرين الإسلام، ولا يملك مبدأٌ أن يُقيم العدل في الأرض إلا الإسلام، فإذا جاء حكم الإسلام على يد القيادة الإسلامية الحقة كان العدل.

تقول الرواية، وكذلك القائم “عليه السلام” إذا قام يُبطِل ما كان في الهُدنة. أي أيام غيبته صلوات الله عليه مما كان في أيدي الناس، وما أكثر مما في أيدي الناس من جهل ومن أباطيل ومن ظلم ومن جهلٍ إلى آخره.

عن سعيد بن جُبير، في تفسير قوله عز وجل: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِينِ كُلِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، يعني مَن هو هذا الذي يُظهِره على الدين كله؟ قال هو المهدي من عترة فاطمة “عليها السلام”، وقال الشافعي -صاحب البيان- وأما من قال أنه عيسى “عليه السلام” فلا تنافي بين القولين إذْ هو مساعدٌ للإمام على ما تقدَم.

الذي سيحدث لترتفع مشكلات العالم، وتتحول الأرض جنة بمقدار ما تُطيقه حياة الدنيا هو الإمام القائم “عجل الله فرجه” الذي يحكم بالإسلام، الإسلام الصحيح الواقعي الذي يتوفر عليه الإمام القائم بما هو واحدٌ من من خزَنَة الوحي المُتَنزل على رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”.

عن كتاب الهادية الكبرى للخُصيبي، المُفضل بن عُمر، قال سألتُ سيدي أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام” في حديثٍ جاء فيه، قال المفضل، يا مولاي بَقيَ لي -يعني بقي لي سؤال- (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِينِ كُلِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، -هل رسول الله لم يظهره على الدين كله؟ هل هناك أحد آخر يظهره كله؟ ألم يعلو الإسلام على كل الأديان؟ فكل ما خالف الإسلام في هذه الأديان سقط؟–

قال المفضل: ما كان رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” يُظهر على الدين كله؟ قال “عليه السلام”: ظَهَر عليه عِلما.

الإسلام من أول نزوله وكل آياته التي نزلت تظهر على ما خالفها في كل الأديان، يعني حجتها هي الحجة الأقوى، هُداها ساطع تماماً، لا يمكن أن تقاومها كلمة من دينٍ آخر، تلتقي مع الأديان في كل صحيحها، وأما ما دخل فيها من باطل مهزومٌ مهزومٌ أمام الآيات الكريمة.

قال المفضل: ما كان رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” يُظهر على الدين كله؟ قال يا مفضل ظَهَر عليه عِلما، ولم يُظهر علمه عليه.

العلم موجود، الإسلام من أول يوم كان فوق كل دين من ناحية العلم، لم يُغلَب ولم يعطَ التفوق والحاكمية والسيطرة على الدين كله من ناحية الواقع العملي، المجوسية بقيت مجوسية، الصابئة بقيت صابئة، النصرانية بقيت نصرانية، وتعمل في ساحة الحياة، وتخلق فِكراً، تؤثر على السلوك، تطرح كلمة حتى في السياسة وما إلى ذلك، توجه مليارات، فكيف يكون الإسلام قد ظَهَر على الدين كله وتلك الأديان توجه المليارات من الناس، من الناحية العملية لم يظهر على الدين كله، ولو كان ظَهَر عليه من الناحية العملية ما كانت مجوسية ولا يهودية، ولو هزم فكر الأديان الأخرى عند الناس لم تبق لها قوة، ولكنها بقيت بقوتها البشرية وسلاحها وتفوقها المادي وامكاناتها التي يتكأ إليها بقاء مبادئها في الأكثر، بقيت قوتها على التنظير والإعلام وإيصال الأفكار بصورة أكبر من المسلمين المهزومين في الواقع العملي بعد افتراقهم عن الإسلام.

ولو كان ظَهَرَ عليه ما كانت مجوسية ولا يهوديةٌ ولا جاهلية، ولا عُبدت الأصنام والأوثان ولا صابئةٌ ولا نصرانيةٌ ولا فرقة ولا خلافةٌ ولا شكٌ ولا شركٌ ولا أولو عزة ولا عُبِد الشمس والقمر ولا النار ولا الحجارة، وهذا كله موجود لحد اليوم، وحتى عبادة الأعضاء التناسلية توجد في بعض البلاد، فنقول الإسلام ظَهَر على الدين كله؟

وإنما قوله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِينِ كُلِهِ) في هذا اليوم، يوم ظهور الإمام القائم “عليه السلام”، وهذا المهدي، يوم المهدي هو يوم ظهور الإسلام على الدين كله، وهذه الرجعة، يوم الرجعة رجعة الحكم الإلهي إلى الأرض هو يوم ظهور الإسلام على الدين كله.

سيادة الحق السيادة النظرية والعملية معاً تقوم بظهور الإمام القائم “عجل الله فرجه وسهل مخرجه”. فما انفصلت عنه البشرية فسَقَطت، إذا عاد قامت ونهضت. انفصلت عن الإسلام وكتابه وقيادته فسقطت، إذا عاد الإسلام وكتابه وسُنته وقيادته حَيَت الأرض من جديد وشعت بنور ربها تبارك وتعالى.

وغَفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبارك الله لجميع العالم الإسلامي بهذه الذكرى المجيدة، وبُشرى للعالم الإسلامي ولكل التوَاقين للحرية والكرامة والعدل من بني الإنسان ليومٍ يظهر فيه الإمام القائم “عجل الله تعالى فرجه”، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.