من معالم شخصیة زینب الحوراء علیها السلام

من معالم شخصیة زینب الحوراء علیها السلام

السیّدة زینب حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله)، هی أوّل سیّدة فی دنیا الإسلام صنعت التأریخ، وأقامت صروح الحقّ والعدل، ونسفت قلاع الظلم والجور، وسجّلت فی مواقفها المشرّفة شرفاً للإسلام وعزاً للمسلمین على امتداد التأریخ.
لقد أقامت سیّدة النساء صروح النهضة الفکریة، ونشرت الوعی السیاسی والدینی فی وقت تلبّدت فیه أفکار الجماهیر، وتخدّرت وخفی علیها الواقع ؛ وذلک من جرّاء ما تنشره وسائل الحکم الاُموی من أنّ الاُمویِّین أعلام الإسلام وحماة الدین وقادة المتّقین، فأفشلت مخطّطاتهم، وأبطلت وسائل إعلامهم، وأبرزت بصورة إیجابیة واقعهم الملوّث بالجرائم والموبقات وانتهاک حقوق الإنسان، کما دلّلت على خیانتهم وعدم شرعیّة حکمهم، وأنّهم سرقوا الحکم من أهله، وتسلّطوا على رقاب المسلمین بغیر رضاً ومشورة منهم.
لقد أعلنت ذلک کلّه بخطبها الثوریة الرائعة التی وضعت فیها النقاط على الحروف، وسلّطت الأضواء على جمیع مخطّطاتهم السیاسیّة وجرّدتها من جمیع المقوّمات الشرعیّة.
وتجسّدت فی حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله) جمیع الصفات الکریمة والنزعات الشریفة ؛ فکانت أروع مثلٍ للشرف والعفاف والکرامة، ولکلّ ما تعتزّ به المرأة وتسمو به فی دینا الإسلام.
لقد ورثت العقیلة من جدّها الرسول (صلّى الله علیه وآله) ومن أبیها الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) جمیع ما امتازوا به من المثل الکریمة، والذی کان من أبرزها الإیمان العمیق بالله تعالى، فقد ضارعتهما العقیلة فی هذه الظاهرة.
وقد روى المؤرّخون عن إیمانها صوراً مذهلة، کان منها أنّها صلّت لیلة الحادی عشر من محرّم، وهی أقسى لیلة فی تأریخ الإسلام، صلاة الشکر لله تعالى على هذه الکارثة الکبرى التی حلّت بهم، والتی فیها خدمة للإسلام ورفع لکلمة التوحید.
وکان من عظیم إیمانها وإنابتها إلى الله تعالى أنّها فی الیوم العاشر من المحرّم وقفت على جثمان أخیها، وقد مزّقته سیوف الکفر، ومثّلت به العصابة المجرمة، فقالت کلمتها الخالدة التی دارت مع الفلک وارتسمت فیه قائلةً: « اللّهمّ تقبّل هذا القربان، وأثبه على عمله...».
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإیمان أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من هذا الکوکب الذی نعیش علیه.

قدراتها العلمیّة
کانت حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله) فی فجر الصبا آیةً فی ذکائها وعبقریاتها ؛ فقد حفظت القرآن الکریم، کما حفظت أحادیث جدّها الرسول (صلّى الله علیه وآله) فیما یتعلّق بأحکام الدین وقواعد التربیة واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأریخی الخالد الذی ألقته اُمّها سیّدة النساء فاطمة (علیها السّلام) فی (الجامع النبوی) احتجاجاً على أبی بکر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ (فدک) التی أنحلها إیّاها أبوها رسول الله (صلّى الله علیه وآله).
وقد روت خطبة اُمّها التی ألقتها على السیّدات من نساء المسلمین حینما عُدنها فی مرضها الذی توفّیت فیه، کما روت عنها کوکبة من الأحادیث.
قد بُهر الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) من شدّة ذکائها، فقد قالت له: أتحبّنا یا أبتاه؟ فأسرع الإمام قائلاً: «وکیف لا اُحبّکم وأنتم ثمرة فؤادی ؟! ».
فأجابته بأدب واحترام: یا أبتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا (1).
وعجب الإمام (علیه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنیب إلى الله تعالى.
وکان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: مَنْ أراد أن لا یکون الخلق شفعاءه إلى الله فلیحمده ؛ ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمَنْ حمده؟ فخف الله لقدرته علیک، واستحِ منه لقربه منک.(2)
وممّا یدلّ على مزید فضلها أنّها کانت تنوب عن أخیها الإمام الحسین (علیه السّلام) فی حال غیابه، فیرجع إلیها المسلمون فی المسائل الشرعیّة ؛ ونظراً لسعة معارفها کان الإمام زین العابدین (علیه السّلام) یروی عنها، وکذلک کان یروی عنها عبد الله بن جعفر، والسیّدة فاطمة بنت الإمام الحسین (علیه السّلام).
ولمّا کانت فی الکوفة فی أیام أبیها کان لها مجلس خاص تزدحم علیها السیّدات، فکانت تلقی علیهنَّ محاضرات فی تفسیر القرآن الکریم، کما کانت المرجع الأعلى للسیّدات من نساء المسلمین، فکنّ یأخذنَ منها أحکام الدین وتعالیمه وآدابه.
ویکفی للتدلیل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة کان یسألها عن بعض المسائل التی لا یهتدی لحلّها، کما روى عنها کوکبة من الأخبار، وکان یعتزّ بالروایة عنها، ویقول: حدّثتنا عقیلتنا زینب بنت علی.
وقد روى عنها الخطاب التأریخی الذی ألقته اُمّها سیّدة النساء فاطمة (علیها السّلام) فی جامع أبیها (صلّى الله علیه وآله).
وقد نابت عن ابن أخیها الإمام زین العابدین (علیه السّلام) فی أیام مرضه، فکانت تجیب عمّا یرد علیه من المسائل الشرعیّة، وقد قال (علیه السّلام) فی حقها «إنّها عالمة غیر معلّمة».
وکانت ألمع خطیبة فی الإسلام ؛ فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأی العام وجنّدته للثورة على الحکم الاُموی، وذلک فی خطبها التأریخیة الخالدة التی ألقتها فی الکوفة ودمشق، وهی تدلّل على مدى ثرواتها الثقافیة والأدبیة.لقد نشأت حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله) فی بیت الوحی ومرکز العلم والفضل، فنهلت من نمیر علوم جدّها وأبیها وأخویها، فکانت من أجلّ العالمات، ومن أکثرهنَّ إحاطة بشؤون الشریعة وأحکام الدین.

عناصرها النفسیّة
وما من صفةٍ کریمةٍ أو نزعةٍ شریفةٍ یفتخر بها الإنسان، ویسمو بها على غیره من الکائنات الحیّة إلاّ وهی من عناصر عقیلة بنی هاشم.وسیّدة النساء زینب (علیها السّلام) قد تحلّت بجمیع الفضائل التی وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله)، وأبیها الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، واُمّها سیّدة نساء العالمین (علیها السّلام)، وأخویها الحسن والحسین (علیهما السّلام) سیدی شباب أهل الجنّة وریحانتی رسول الله (صلّى الله علیه وآله) ؛ فقد ورثت خصائصهم، وحکت ممیّزاتهم، وشابهتهم فی سموّ ذاتهم ومکارم أخلاقهم.
لقد کانت حفیدة الرسول بحکم مواریثها وخصائصها أعظم وأجلّ سیّدة فی دنیا الإسلام ؛ فقد أقامت صروح العدل، وشیّدت معالم الحق، وأبرزت قیم الإسلام ومبادئه على حقیقتها النازلة من ربّ العالمین، فقد جاهدت هی واُمّها زهراء الرسول کأعظم ما یکون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا یُعرف لها مثیل أمام التیارات الحزبیة التی حاولت بجمیع ما تملک من وسائل القوة أن تلقی الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعیین الذین أقامهم الرسول (صلّى الله علیه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحکمته وعلومه.
فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سید العترة الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام)، رائد العدالة الاجتماعیة فی الإسلام، فناهضت حکومة أبی بکر فی خطابها التأریخی الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التی وضعت فیها الأساس المشرق لمبادئ شیعة أهل البیت (علیهم السّلام) ؛ فهی المؤسّسة الأولى بعد أبیها (صلّى الله علیه وآله) لمذهب أهل البیت (علیهم السّلام).
وکذلک وقفت ابنتها العقیلة أمام الحکم الاُموی الأسود الذی استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البیت (علیهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعی والسیاسی، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامی ؛ فوقفت حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله) مع أخیها أبی الأحرار فی خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته، وهی بخطبها فی أروقة بلاط الحکم الاُموی، ذلک الکابوس المظلم الذی کان جاثماً على رقاب المسلمین.
وعلى أی حال، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسیّة لحفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله)، وما تتمتّع به من القابلیات الفذة التی جعلتها فی طلیعة نساء المسلمین، وفیما یلی ذلک:

الإیمان الوثیق
وتربّت عقیلة بنی هاشم فی بیت الدعوة إلى الله تعالى، ذلک البیت الذی کان فیه مهبط الوحی والتنزیل، ومنه انطلقت کلمة التوحید وامتدت أشعتها المشرقة على جمیع شعوب العالم واُمم الأرض، وکان ذلک أهمّ المعطیات لرسالة جدّها العظیم.
لقد تغذّت حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله)بجوهر الإیمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى فی عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلک من مقوّماتها وذاتیاتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، کلّ ذلک من أجل رفع کلمة الله عالیة خفّاقة.
إنّ الإیمان الوثیق بالله تعالى والانقطاع الکامل إلیه کانا من ذاتیات الاُسرة النبویّة ومن أبرز خصائصهم.
ألم یقل سید العترة الطاهرة الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فی دعائه: «ما عبدتک طمعاً فی جنّتک، ولا خوفاً من نارک، ولکنّی وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک؟»
وهو القائل: «لو کشف لی الغطاء ما ازددت یقیناً».
أمّا سیّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسین (علیه السّلام)، فقد أخلص لله تعالى کأعظم ما یکون الإخلاص، وذاب فی محبّته، وقد قدّم نفسه والکواکب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابین خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التی یذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم یمتحن به أحدٌ من أنبیاء الله وأولیائه، کلّ ذلک فی سبیل الله تعالى.
فقد رأى أهل بیته وأصحابه الممجّدین صرعى، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحی وهنّ بحالة تمید من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشریة وهم یوسعونه ضرباً بالسیوف وطعناً بالرماح ؛ لیتقرّبوا بقتله إلى سیّدهم ابن مرجانة.لقد قال وهو بتلک الحالة کلمته الخالدة، قال: «لک العتبى یا ربّ، إن کان یرضیک هذا فهذا إلى رضاک قلیل».
ولمّا ذُبح ولده الرضیع بین یدیه قال: «هوّن ما نزل بی أنّه بعین الله»(3).أرأیتم هذا الإیمان الذی لا حدود له؟ أرأیتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله ؟
وکانت حفیدة الرسول زینب (سلام الله علیها) کأبیها وأخیها فی عظیم إیمانها وانقطاعها إلى الله ؛ فقد وقفت على جثمان شقیقها الذی مزّقته سیوف الشرک وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها وقالت کلمتها الخالدة التی دارت مع الفلک وارتسمت فیه: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(4).
إنّ الإنسانیّة تنحنی إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإیمان الذی هو السرّ فی خلودها وخلود أخیها.لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن یتقبّل ذلک القربان العظیم الذی هو ریحانة رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فأیّ إیمان یُماثل هذا الإیمان؟ وأیّ تبتّل إلى الله تعالى یُضارع هذا التبتّل؟
لقد أظهرت حفیدة الرسول بهذه الکلمات الخالدة معانی الوراثة النبویّة، وأظهرت الواقع الإسلامی وأنارت السبیل أمام کلّ مصلح اجتماعی، وأنّ کلّ تضحیة تُؤدّى للاُمّة یجب أن تکون خالصة لوجه الله غیر مشفوعة بأیّ غرض من أغراض الدنیا.
ومن عظیم إیمانها الذی یبهر العقول ویحیّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشکر إلى الله تعالى لیلة الحادی عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع کلمة الله.لقد أدّت الشکر فی أقسى لیلة وأفجعها، والتی لم تمرّ مثلها على أیّ أحدٍ من بنی الإنسان.
لقد أحاطت بها المآسی التی تذوب من هولها الجبال ؛ فالجثث الزواکی من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلین ولا مکفّنین، وخیام العلویات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) من حُلی وما عندهنّ من أمتعة، وهنَّ یعجنَ بالبکاء لا یعرفنَ ماذا یجری علیهنَّ من الأسر والذلّ، إلى غیر ذلک من المآسی التی أحاطت بحفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله)، وهی تؤدّی صلاة الشکر لله تعالى على هذه النعمة التی أضفاها علیها وعلى أخیها.
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإیمان العلوی أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الکوکب الذی نعیش فیه.

الصبر
من النزعات الفذّة التی تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسیّدة النساء زینب (علیها السّلام) هی الصبر على نوائب الدنیا وفجائع الأیام، فقد تواکبت علیها الکوارث منذ فجر الصبا، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله علیه وآله) الذی کان یحدب علیها، ویفیض علیها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهیبة المروعة التی دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها ؛ فقد اُقصی أبوها عن مرکزه الذی أقامه فیه النبی (صلّى الله علیه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفیت وهی فی روعة الشباب وغضارة العمر، وقد کوت هذه الخطوب قلب العقیلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر.
وتوالت بعد ذلک علیها المصائب، فقد رأت شقیقها الإمام الحسن الزکی (علیه السّلام) قد غدر به أهل الکوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاویة الذی هو خصم أبیها وعدوّه الألدّ، ولم تمض سنین یسیرة حتّى اغتاله بالسمّ، وشاهدته وهو یتقیأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخیرة.
وکان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب یوم الطفّ ؛ فقد رأت شقیقها الإمام الحسین (علیه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معین، وشاهدت الکواکب المشرقة من شباب العلویِّین صرعى قد حصدتهم سیوف الاُمویِّین، وشاهدت الأطفال الرضّع یُذبحون أمامها.
إنّ أی واحدة من رزایا سیّدة النساء زینب لو ابتُلی بها أیّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسی، وما تمکن على مقاومة الأحداث، ولکنّها (سلام الله علیها) قد صمدت أمام ذلک البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضیة بقضاء الله تعالى، وصابرة على بلائه، فکانت من أبرز المعنیین بقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِینَ * الَّذِینَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِیبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ * اُولئک عَلَیْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(5).
وقال تعالى: (إِنَّمَا یُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَیْرِ حِسَابٍ)(6)، وقال تعالى: (وَلَنَجْزِیَنَّ الَّذِینَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ)(7).
لقد صبرت حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم یشاهد فی جمیع فترات التأریخ سیّدة مثلها فی قوّة عزیمتها وصمودها أمام الکوارث والخطوب.
لقد قابلت العقیلة ما عانته من الکوارث المذهلة والخطوب السود بصبر یذهل کلّ کائن حی.

العزّة والکرامة
من أبرز الصفات النفسیّة الماثلة فی شخصیة سیدة النساء زینب (علیها السّلام) هی العزّة والکرامة ؛ فقد کانت من سیّدات نساء الدنیا فی هذه الظاهرة الفذّة، فقد حُملت بعد مقتل أخیها من کربلاء إلى الکوفة سبیّة، ومعها بنات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) قد نُهب جمیع ما علیهنّ من حُلی وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البیت وعقائلهم، فترفّعت العقیلة أن تطلب من اُولئک الممسوخین ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شیئاً من الطعام لهم.
ولمّا انتهى موکب السبایا إلى الکوفة، وعلمنَ النساء أنّ السبایا من أهل بیت النبوّة، سارعنَ إلى تقدیم الطعام إلى الأطفال الذین ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السیّدة زینب مخاطبة نساء أهل الکوفة قائلة: الصدقة محرّمة علینا أهل البیت.
ولمّا سمع أطفال أهل البیت (علیهم السّلام) من عمّتهم ذلک ألقوا ما فی أیدیهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم یقول لبعض: إنّ عمّتنا تقول: الصدقة حرام علینا أهل البیت.
أیّ تربیة فذّة تربّى علیها أطفال أهل البیت (علیهم السّلام) ! إنّها تربیة الأنبیاء والصدّیقین التی تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفیع یکون من أفضل خلق الله.
ولمّا سُیّرت سبایا أهل البیت (علیهم السّلام) من الکوفة إلى الشام لم تطلب السیدة زینب طیلة الطریق أیّ شیء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إلیها ؛ فقد أنفت أن تطلب أیّ مساعدة من اُولئک الجفاة الأنذال الذین رافقوا الموکب.
لقد ورثت عقیلة بنی هاشم من جدّها وأبیها العزّة والکرامة، والشرف والإباء، فلم تخضع لأیّ أحدٍ مهما قست الأیام وتلبّدت الظروف، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.

الشجاعة
ولم یشاهد الناس فی جمیع مراحل التأریخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبویّة الکریمة ؛ فالإمام أمیر المؤمنین (سلام الله علیه) عمید العترة الطاهرة کان من أشجع خلق الله، وهو القائل: «لو تضافرت العرب على قتالی لما ولّیت عنها».
وقد خاض أعنف المعارک وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال وألحق بجیوش الشرک أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الکبرى، وکان ولده أبو الأحرار الإمام الحسین (علیه السّلام) مضرب المثل فی بسالته وشجاعته ؛ فقد حیّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه.
فقد وقف یوم العاشر من المحرّم موقفاً لم یقفه أیّ أحدٍ من أبطال العالم ؛ فإنّه لم ینهار أمام تلک النکبات المذهلة التی تعصف بالحلم والصبر، فکان یزداد انطلاقاً وبشراً کلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً.فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بیته زحف علیه الجیش بأسره ـ وکان عدده فیما یقول الرواة ثلاثین ألفاً ـ فحمل علیهم وحده، وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه کالمعزى إذا شدّ علیها الذئب ـ على حدّ تعبیر بعض الرواة ـ وبقی صامداً کالجبل یتلقى الطعنات والسهام من کلّ جانب، لم یوهن له رکن ولم تضعف له عزیمة.

وتمثّلت هذه البطولة العلویة بجمیع صورها وألوانها عند حفیدة الرسول وعقیلة بنی هاشم السیدة زینب (سلام الله علیها) ؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابی المجرم سلیل الأدعیاء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثیم یظهر الشماتة بلسانه الألکن قائلاً: الحمد لله الذی فضحکم وقتلکم، وکذّب اُحدوثتکم.
فانبرت حفیدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة: الحمد لله الذی أکرمنا بنبیّه، وطهّرنا من الرجس تطهیراً، إنّما یُفتضح الفاسق ویُکذب الفاجر، وهو غیرنا یابن مرجانة..(8)
لقد قالت هذا القول الصارم الذی هو أمض من السلاح، وهی والمخدّرات من آل محمّد فی قید الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ، وشهرت علیهنَّ سیوف الملحدین.لقد أنزلت العقیلة ـ بهذه الکلمات ـ الطاغیة من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبیده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر.
ولم یجد ابن مرجانة کلاماً یقوله سوى التشفّی بقتل عترة رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، قائلاً: کیف رأیت صنع الله بأخیک(9)؟
وانطلقت عقیلة بنی هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بکلمات الظفر والنصر لها ولأخیها قائلة: ما رأیت إلاّ جمیلاً، هؤلاء قوم کتب الله علیهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسیجمع الله بینک وبینهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج یومئذ، ثکلتک أُمّک یابن مرجانة !
أرأیتم هذا التبکیت الموجع؟ أرأیتم هذه الشجاعة العلویة؟ فقد سجّلت حفیدة الرسول (صلّى الله علیه وآله) بموقفها وکلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمین، ومجداً خالداً للاُسرة النبویّة.
أمّا موقفها فی بلاط یزید، وموقفها مع الشامی وخطابها الثوری الخالد فقد هزّ العرش الاُموی، وکشف الواقع الجاهلی لیزید ومن مکّنه من رقاب المسلمین، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة فی البحوث الآتیة.

الزهد فی الدنیا
ومن عناصر سیّدة النساء زینب (علیها السّلام) الزهد فی الدنیا ؛ فقد بذلت جمیع زینتها ومباهجها مقتدیة بأبیها الذی طلّق الدنیا ثلاثاً لا رجعة له فیها، ومقتدیة باُمّها سیّدة نساء العالمین، زهراء الرسول.
فقد کانت ـ فیما رواه المؤرّخون ـ لا تملک فی دارها سوى حصیر من سعف النخل، وجلد شاة، وکانت تلبس الکساء من صوف الإبل، وتطحن بیدها الشعیر، إلى غیر ذلک من صنوف الزهد والإعراض عن الدنیا.وقد تأثّرت عقیلة الرسول (صلّى الله علیه وآله) بهذه الروح الکریمة فزهدت فی جمیع مظاهر الدنیا، وکان من زهدها أنّها ما ادّخرت شیئاً من یومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زین العابدین (علیه السّلام)(10).
وقد طلقت الدنیا وزهدت فیها وذلک بمصاحبتها لأخیها أبی الأحرار ؛ فقد علمت أنّه سیستشهد فی کربلاء، أخبرها بذلک أبوها، فصحبته وترکت زوجها الذی کان یرفل بیته بالنعیم ومتع الحیاة، رفضت ذلک کلّه وآثرت القیام مع أخیها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقیمه، وهی على علم بما تشاهده من مصرع أخیها، وما یجری علیها بالذّات من الأسر والذلّ.
لقد قدّمت على ذلک خدمة لدین الله تعالى.
المصدر: السیدة زینب (ع) رائدة الجهاد فی الاسلام -تألیف: باقر شریف القریشی
الهوامش:
(1) زینب الکبرى / 35.
(2) أعیان الشیعة 7 / 140.
(3) حیاة الإمام الحسین (علیه السّلام) 3 / 276.
(4) المصدر السابق / 304.
(5) سورة البقرة / 155 ـ 157.
(6) سورة الزمر / 10.
(7) سورة النحل / 96.
(8) تاریخ الطبری 6 / 263.
(9) زینب الکبرى / 61.
(10) صحیح الترمذی 2 / 319، وقریب منه رواه الحاکم فی مستدرکه 3 / 149، وابن الأثیر فی اُسد الغابة 5 / 523، والخطیب فی تأریخ بغداد 7 / 36، وغیرهم

المصدر : موقع العتبة الرضوية المقدسة