الشيخ عبد الكريم الزنجاني

الشيخ عبد الكريم الزنجاني

الشيخ عبد الكريم الزنجاني
1304 هـ ـ 1388 هـ 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هو الشيخ عبد الكريم بن محمد رضا بن محمد حسن الزنجاني، مجتهد إمامي من علماء النجف مولده ووفاته بها كان جده قد هاجر إلى زنجان «في شمال إيران» 1217 هـ فنسب صاحب الترجمة إليها وصنف كتبا بالعربية والفارسية والأردية وقام برحلة جمعت خطبه فيها بكتاب «صفحة من رحلة الإمام الزنجاني وخطبه فيها للأقطار العربية والعواصم الإسلاميّة» طبع جزآن. ومن كتبه المطبوعة «ابن سينا» و«الكندي» و«الإعداد الروحي للجهاد الإسلامي في فلسطين» و«جامع المسائل» في الفقه، و«دروس الفلسفة» و«محاضرات» و«الوحدة الإسلاميّة» و«التقريب بين مذاهب المسلمين»(1).

(الوحدة الإسلاميّة)
«محاضرة كبير المجتهدين في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين»
«كبير مجتهدي الشيعة يدعو إلى الوحدة الإسلاميّة وضرورتها»
«وضرورة التعاون بين أهل السنة والشيعة»
________________________
1ـ أعلام الزركلي 4: 56.

زار القاهرة في الشهر المنصرم الإمام المجتهد الشيعي الكبير الشيخ عبد الكريم الزنجاني وقد عنيت به السفارتان الإيرانية والعراقية في القاهرة وحل محل الإجلال والإكرام من جميع البيئات المصرية وألقى في العاصمة المصرية عدة محاضرات محاولا فيها إثبات التقارب بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين مذهب أهل السنة ومذهب الإمامية الاثني عشرية توطئة لإقامة حسن الظن والمودة بين الجميع، وقد عقد أمس في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهرة اجتماع كبير حضره أكثر من خمسة آلاف نفر للاحتفال بسماحة الإمام الشيخ عبد الكريم الزنجاني كبير العلماء المجتهدين في الشيعة المسلمين وكان في مقدمة الحاضرين أصحاب المعالي والسعادة جعفر لي باشا، ومحمد علي علوبه باشا، ومحمد بهي الدين بركات، سلطان أحمد راد وزير إيران المفوض، عبد القادر بك الكيلاني وزير العراق المفوض في مصر، مصطفى حنفي بك وكيل الحقانية، شوكت بك المستشار الملكي وغيرهم من كبار العلماء وأساتذة الجامعتين المصرية والأزهرية. واستقبلهم جميعاً حضرة الدكتور عبد الحميد سعيد شيخ الشبان المسلمين ومعه أعضاء مجلس إدارته.
وبعد أن تناول المحتفل به المرطبات والحلوى مع جمع من الكبراء ثم انتقل إلى القاعة الكبرى للمحاضرات فاستقبله الجمهور المحتشد فيها بعاصفة من التصفيق ثم ارتقى المنصة فقدّمه صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار بكلمة طيبة وقال: إننا رجونا سماحته في أن يحاضر الشبان المسلمين في هذه الليلة فأجاب الرجاء وإنكم لتسمعون الليلة ما يملأ قلوبكم فرحاً لدلالته على وحدة الشعور والعاطفة بين مصر وشقيقيها العراق وإيران بل بين مصر وكل جزء في العالم يسكنه مسلمون.
ووقف بعد ذلك سماحة الإمام الشيخ عبد الكريم الزنجاني فألقى خطبة جامعة كانت من أروع ما شهدته مصر، وقد بدأها بالتدليل على أن نظام الخلق ونظام المجتمع قاما على قاعدة الوحدة المتعاونة الأجزاء والمفتقر بعضها إلى بعض، ونحى في هذا التدليل نحواً فلسفياً استقام فيه المنطق، وكان يرتكز في كل ناحية من البحث على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ولم يترك آية ولا حديثاً دون بيان وشرح وتفسير في عبارات عربية بليغة فأثار هذا إعجاب الحاضرين عامة وإعجاب الأزهريين خاصة.
واستطرد سماحته في الخطاب إلى ذكر اللغة العربية وما تصادفه من انتشار في كل البلاد التي يسكنها مسلمون في الشرق كالهند، وفي البلاد الإسلاميّة كإيران، ففي الأولى يقوم التعليم في إحدى كلياتها باللغة العربية، وفي الثانية توجد جامعة عظيمة يجري التعليم في إحدى كلياتها باللغة العربية كذلك، ثم إلى جانب هذا وذاك ما تزال دراسة الفقه الإسلامي وعلوم التفسير والحديث والكلام والفلسفة باللغة العربية وقال: إن اللغة العربية لا يمكن أن يستغنى عنها في البلاد غير العربية التي يسكنها مسلمون، وأينما وجد الدين الحنيف وجدت اللغة العربية لغة القرآن المجيد.
وذكر سماحة الإمام الزنجاني بعد هذا أن بعض المؤلفين أهدى إليه كتاباً قبل بضعة أيام فوجد ما أنشأه لا يتفق مع الواقع فيما ـ يختص بالكلام عن مذهب الشيعة ـ وقال أنّه يرى أن هذا المؤلف لم يخطيء فيما قاله عن الشيعة إلا لأنه لا يعرفها أو لم يخصص نفسه لدرسها ولو أنّه اختار موضوعاًَ لمؤلفه يكون قد تخصص فيه لأنتج إنتاجاً عملياً مفيداً، واستطرد من هذا إلى الكلام عن مذهب الشيعة فقال: إنه يقوم على توحيد الله في ذاته وصفاته ومعبوديته وأفعاله وآثاره، وأن الله جل شأنه واجب الوجود بذاته ولذاته وفي ذاته ومنزّه عن التجسم والحلول والتركيب والنقائص ومستجمع لجميع صفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والإرادة والعدل ونحوها، وان صفاته الحقيقية عين ذاته وهو الواحد الأحد لا شريك له في الألوهية والمعبودية والفاعلية، وما سواه من العالم صنيعه لا إله غيره ولا حول ولا قوة إلاّ به له الخلق والأمر ولا مؤثر في عالم الوجود غيره.
ثم الإيمان المطلق بالنبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأنه خاتم النبيين وسيد الرسل ومعصوم من الخطأ والخطيئة وان الله أرسله بالقرآن الكريم وهو الكتاب الموجود في أيدي المسلمين بلا تحريف وأن كل من اعتقد أو أدعى نبوة بعد نبوة محمد بن عبدالله ـ صلى الله عليه وآله ـ أو نزول وحي أو كتاب كافر، وأن جميع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم رسل من الله وعباد معصومون ابتعثهم الله لدعوة الخلق إلى الحق.
وكذا الإيمان بما جاء في القرآن كله من أن الله تعالى شأنه يعيد الخلائق ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء ولولاه لما صح التشريع، وان المعاد هو الشخص بعينه وجسده وروحه وان الجنة والنار ونعيم البرزخ وعذابه والميزان والصراط حق والناس مجزيون بأعمالهم وكذا الإيمان بالفرائض كلها وهي الصلاة والزكاة والخمس والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومودة آل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ التي هي أجر الرسالة.
ثم قال: وهذا هو الإسلام الذي نعتز به، نعم تعتقد الشيعة الإمامية أن الإمامة رئاسة في الدين والدنيا ومنصب إلهي، وبما أن الإسلام دين عام للبشر كافة وتعاليمه فطرية أبدية أراد الله بقائه إلى آخر الدنيا فلابد من إمام منصوب من الله في كل زمان لكي لا يتوجه نقض الغرض المستحيل على الله الحكيم، فهم يعتقدون بأمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وأحد عشر من أولاده الأئمة عليهم السلام وهم مع ذلك يعتقدون بأن كل معتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد والفرائض مسلم لا فارق بينه وبين الشيعي في الإسلام وتعاليمه الاجتماعية والدنيوية ولا يزيد عليه الشيعي المعتقد بالإمامة إلاّ في أجر الآخرة وغرف الجنة والجنة أمرها بيد مالك يوم الدين.
وكذلك يجب أن يعتقد السني أيضاً بأن كل من آمن بما جاء في القرآن الكريم واخبر به محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الأصول الفروع التي ذكرناها آنفا مسلم وإن لم يعتقد بخلافة الخلفاء التي لم تحدث إلاّ بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولم يكن يعرفها المسلمون كلهم في حياته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وبعد أن تكلم في بيان ذلك تفصيلا مؤيداً أقواله بالأدلة قال:
أما وأن الإمام ـ عليه السلام ـ غائب والخلافة منحلة، وما يعود إلى درجات الآخرة فحكمه إلى الله مالك يوم الدين، وما يعود إلى الشؤون الاجتماعية فمنصته شاغرة لا مندوحة أن يقوم به الأُمة وعلمائها ولا يجوز إهمالها، وليس بين المسلمين خلاف في الشؤون الاجتماعية، وإني أصرح هنا أن الفوارق الاجتماعية القائمة على الصبغة الدينية مبعثها التحزّب وحب الرئاسة.
وتكلم بعد هذا عما كان يأتيه السلاطين والحكام من الأعمال ليتسلطوا على الشعوب المحكومة بهم، وقال إن كثيراً من هؤلاء كانوا يلتمسون الانتصار على الشعوب والاستحواذ عليها من طريق الدين ومن هنا ومن تحزب البعض لرأيه وتعصب الآخر في مناهضته نشأت الفوارق الاجتماعية التي نشاهدها بين الشيعة وأهل السنة، وهي فوارق مبعثها السياسة والأنانية وحب الرئاسة وقال: إن هذه الفوارق يجب أن تمحى ليتم بناء الوحدة الإسلاميّة ويقوى، وإنه من الميسور على العلماء وأهل الرأي أن ينظروا في هذا ويقرروه باعتباره حقيقة ضرورية القيام بل لابد من قيامها. وقال: إن من هذه الفوارق أن الشيعة يقولون بأن باب الاجتهاد مفتوح أمام العلماء المختصين والمجتهدين، ولا يستند مجتهد الشيعة إلى هوى نفسه بل يستنبط الأحكام الشرعية من القرآن الشريف والحديث الصحيح ومن الإجماع والعقل باعتبارهما يرجعان إلى الكتاب والسنة بينما يقول أهل السنة أن هذا الباب مقفل والأدلة عند أهل الرأي منهم هي القرآن الكريم والحديث والإجماع والقياس وانهم يقولون أن القياس مظهر لا مثبت فهو كاشف عن وجود الحديث وكذلك يقولون في الإجماع انه لا ينعقد لو لم يكن دليل اعتمد عليه المجمعون فيكون مرجعهما إلى الكتاب والسنة، ثم جاء الأستاذ بعد ذلك بما تشترطه الشيعة في المجتهد من العلم الصحيح الثابت بالدين وعلومه.
واستطرد في هذا إلى القول بأنه قبل أن يجيء، مصر كان يظن أن الفارق عظيم بين الرأيين لتمسك كل فريق برأيه ولكنه وجد في مصر غير ذلك منذ اجتمع بعلمائها الأكابر فانهم يجتهدون ويجتهدون كما يجتهد علماء الشيعة تماماً. ثم قال: وشيء آخر بين الشيعة والسنة فيذكر بعضهم أن الأولين يغالون في محبتهم لآل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد جئت إلى مصر فوجدت أهلها السنيين يزيدون عنا في محبة آل البيت عليهم السلام ـ .
وهنا سأله فضيلة الأستاذ محمود شلتوت: ما قولكم في عصمة الأئمة؟
فقال ما مؤداه: إن للعصمة مراتب ودرجات يختص بعضها بالأنبياء عليهم السلام كالعصمة في الوحي والتشريع وتتصف ببعضها الأئمة المكلفون بحفظ الدين وتبليغه، وهي في الكل (ملكة تردع عن ارتكاب الخطأ والخطيئة)، ولكن ملكة العدالة هي التي تردع عن ارتكاب الخطيئة.
وقال بعد ذلك: يجب أن تكون وجهة نظرنا جميعاً هي تكوين الوحدة الإسلاميّة، وأن نزيل كل ما يقوم في سبيلها من حوائل ما دام لا يمس ديننا الحنيف في أصوله وقواعده وأحكامه.
وقال: انه يصرح مرة أخرى بأن الفوارق القائمة خلقها التحزب وحب الرئاسة الذي حذَّرنا منه كثيراً بعض أئمتنا الهداة الذين: بيّنوا كل ما يهذب نفوسنا ويقربنا إلى الحق والحقيقة، ويقرب المسلمين بعضهم إلى بعض ويوصلهم إلى المثل الأعلى للإنسانية. وأرى من المناسب أن أتحفكم بإحدى كلماتهم وهي هذه:
روى الطبرسي في كتاب «الاحتجاج» ( ) بإسناده عن الإمام الثامن (الرضا) عليه السلام أنّه قال: قال علي ابن الحسين ـ عليه السلام ـ (إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت ( ) في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف بنيته، ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها فهولا يزال يختل ( ) الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبوا عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرماً، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغرنكم حتّى تنظروا ما عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله بجهده فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتّى تنظروا أمع هواه يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة الباطلة حتّى إذا قيل له إتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطلة إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ( ) فهو يحلّ ما حرّم الله ويحرّم ما أحلّ الله، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقى من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليه ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهيناً.
__________________________________
1 ـ نقلا عن مذكرات الأستاذ الشهير السيد رشيد مرتضى.
2 ـ المناوت: الناسك
3 ـ يخدع الناس ويتخفى لهم.
4 ـ ناظر إلى قوله تعالى: الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.

ولكن الرجل، كل الرجل، نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضاء الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأن كثيراً ما يلحقه من سرّائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال فذلك الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا، وبسنته فاقتدوا، والى ربكم فارغبوا، فبه فتوسلوا فإنه لا يرد له دعوة، ولا يخيب له طلبة الخ...
وبعد أن تكلم الإمام في هذا طويلا مستشهداً بالتاريخ وبيّن مفاسد التفرق، وأثبت ضرورة الاتحاد والوحدة قال: ولكن بعض المؤلفين في المذاهب وبعض رجال الدين يحولون دون وصول المسلمين إلى الاتحاد لقد أهدى ألي بعض أساتذتكم كتاباً ألفه وطبعه حديثاً يتضمن قضايا عن الشيعة تشبه ما كان يسجل في القرون المظلمة بتأثير الدرهم والدينار والحديد والنار، وما أشبه هذا المؤلف الباحث عن مذهب التشيع بسائح أوربي صادف في شارعكم زفة عروس يتفرج الناس عليها ووقع نظره على جماعة يتطلعون عليها من ذروة مأذنة دار جمعية الشبان المسلمين فسأل بعض المتفرجين لمن هذه الدار فقيل له هذه دار جمعية الشبان المسلمين، فكتب السائح الأوربي في مذكرته من عادة المصريين أنهم يبنون منارة عالية مرتفعة جداً لعرض التطلع من ذروتها على زفة العرس وإني رأيتها بعيني في دار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة...
وقد أخطأ هذا السائح إذ لم يسأل أهل الدار كما أخطأ في أنّه سأل عن الدار فقط ثم كتب عن منارة الدار بزعمه الفاسد، ولو كان يسأل أهل الدار، أو كان يسأل في الخارج عن المنارة، لأجابوه أنها مأذنة المعبد الموجود في دار الجمعية بنيت لغرض الأذان والعبادة، وبعد أن استنكر الإمام لمحاولات هؤلاء المؤلفين وما يحدثونه من تفريق المسلمين قال: أنّه ينتهز فرصة هذه المحاضرة ليعلن استنكاره لما يحاوله بعض العلماء اليوم من تطبيق ما جاء في القرآن المعجز الخالد على نظريات العلم الحديث، وقال ان نظريات العلم متغيرة، ينقض ما يجيء اليوم ما قام بالأمس وشرح الامام هذا الموضوع بما أدهش الحاضرين ثم ختم محاضرته الارتجالية بالدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة وضرورة العمل على قيامها، ودعى الله سبحانه وتعالى أن يهيء للمسلمين خيراً في حاضرهم ومستقبلهم.

وتشاهد في صفحة 452 تكريم جمعية الهداية الإسلاميّة لسماحة الإمام الحجة الشيخ الزنجاني، ويرى الإمام جالساً على مائدة الشاي بين الأساتذة في دار الجمعية العامرة.

حفلت جمعية الهداية الإسلاميّة أمس بعدد كبير من رجال العلم والأدب تلبية لدعوة حضرة صاحب الفضيلة رئيس الجمعية الفاضل، وإحتفاءاً بالإمام الجليل الشيخ عبد الكريم الزنجاني كبير علماء النجف وفي الساعة السادسة وصل الضيف الكريم وكان بصحبته السيد عبدالرحيم ماسونتين من أقطاب مسلمي الصين وزعمائهم، ولفيف من العلماء والوجهاء فاستقبلهم الحاضرون بالإجلال، وكان في مقدمة الحاضرين السادة عبد الحميد كازروني بك رئيس الجمعية الخيرية الإيرانية، ومهدي عزيز الهندي بك وكيل الجمعية، والسيد محمد كوجين رئيس البعثة الصينية، وسائر رؤساء البعثات الإسلاميّة في مصر، وبعد أن استراحوا قليلا جلس الجميع حول موائد الشاي فأكلوا هنيئاً، وشربوا مريئاً ثم وقف فضيلة السيد محمد الخضر رئيس الجمعية فألقى كلمة طيبة ضمنها الترحيب بالضيف الكريم، وأعقبه حضرات الأساتذة الشيخ علي محفوظ والشيخ عبد الوهاب محمد سليم، والشيخ علي أحمد وعبد السلام أفندي سكرتير الجمعية، وطلب الحاضرون كلمة من الضيف العظيم، فوقف الإمام الزنجاني، وألقى خطبة جامعة بين العلم والأدب والحكمة قوبلت بالتصفيق الشديد والإعجاب التام.
__________________________
1 ـ نقلا عن جريدة «الاهرام» 7 ـ 11 ـ 1936.
وعن جريدة «الجهاد» 22 شعبان 1355 ـ 7 نوفمبر 1936.
وعن جريدة «المصري» 22 شعبان 1355 ـ 7 نوفمبر 1936.
وعن مذكرات الأستاذ الكبير السيد رشيد مرتضى.
قالا الإمام الزنجاني في كلمته:
خلق البشر لحكمة سامية هي عبادة مبدع الكائنات وحده والعبادة (عقلية وقلبية) كالإيمان بالخالق وصفاته الجلالية والجمالية وبأنبيائه ورسله وأوصيائهم ـ عليهم السلام ـ وبالمعاد والبعث والجزاء الأخروي (وبدنية) كالصلاة مثلا (ومالية) كالزكاة و(مركبة من مالي وبدني) كالحج والجهاد، وهذه العبادات لا تقام على وجهها إلاّ بوسائل هي صحة الفكر وسلامة البدن، وذات اليد، ولهذه الوسائل وسائل تسبقها كالزراعة والصناعة والتفقه في الدين وبعض العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة أو الكونية كالطب وليس في استطاعة الفرد أو الرهط من الناس الاستقلال بهذه الوسائل فاحتاج الناس بمقتضى فطرتهم وما خلقوا من أجله إلى التعارف والتعاون، ولا تعارف ولا تعاون إلاّ بالاجتماع، فالاجتماع هو الذي تقتضيه الفطرة، وبه تنتظم العلوم وتبلغ المدينة الفاضلة أشدها، فيتهيأ للناس أن يعبدوا الله على بصيرة ويتقربوا إليه بضروب من الأعمال الصالحة لا تحصى.
وهذا هو السر في أن الإسلام الذي هو دين فطري اجتماعي قرر إيثار الاجتماع على العزلة، وشرّع للاجتماع أحكاماً عادلة وآدابا فاضلة في جميع نواحيه من الاقتصادي والأسري والقضائي والخلقي والعمراني والثقافي والسياسي، وأقام سلطان العقل، وأعلن حرية النظر والفكر وهدم صنم التقليد، وأنقذ الضمير البشري من الذين انتحلوا حق التسلط عليه، وقرر التكافل على تحقيق الخير العام، واستمرار الارتقاء في درجات العلم والعمل، ومبدأ المساواة الشاملة بحيث شملت المسلمين وفاضت على غيرهم من المشاركين لهم في الوطن، ونظر إلى نوع البشر بصفته إنساناً (تلك الصفة التي هي حقيقة جوهر الإنسانية ) وجعل في تعاليمه إهدار الفروق والاختلافات في ظلال الوحدة الإنسانية التي هي نفس صبغة الوحدة الإسلاميّة، لأن الإسلام دين الإنسان ودين العالم ودين البشر «لا دين قوم دون قوم».
وبهذا تكفل السلم العام وقوّى في نفوس البشر الشعور بالعدل، فشهد العالم أجمع ما للعدالة الإسلاميّة من قوة وجبروت واعترف جميع العقلاء بأنه دين عام خالد ولم يجعله الله تعالى خاتم الأديان وهو يريد به التفريق بين الأهل والعشيرة ولا بين أبناء الوطن الواحد، ولا بين النوع الإنساني بأكمله بل أثبت به السعادة المزدوجة ليوفق بين مطالب الروح ومطالب الجسد على مقتضى ناموس عادل وصراط مستقيم ونظر الإسلام إلى الأمم الإسلاميّة باعتبارها طائفة واحدة تحدّها العقائد المقدسة المشتركة، التوحيد والنبوة والمعاد والقرآن الكريم، والاتجاه إلى القبلة والصلاة إليها فلا ينظر إلى عنصر ولا إلى مذهب بل إلى وحدة خلع الإسلام عليها ثوبه وجعلها تحت رايته فاصطبغت بصبغته، ودانت بكتابه فقال تعالى: ﴿إنّما المؤمنون أخوة﴾.
ولكن المؤسف أن الأُمة الإسلاميّة مبتلاة منذ مدة طويلة بالجدل العقيم تجادل في الأصول وتجادل في الفروع وتجادل فيما هو أقل شأنا من الأصول والفروع، راضية بهذا الجدل، لأهية عن سر الإسلام وعظمته وعن مقومات الأمم التي لا تستطيع أمة أن تحيا وترفع رأسها إلاّ بها ولم يقف أمر التخاذل بينهم عند التخاذل بين الأمم بل تخاذلوا جماعات وتخاذلوا أفراداً وانقطعت الروابط بينهم كما تقطعت بينهم وبين أهل سائر الأديان السماوية وضيعوا جمال التعاليم الإسلاميّة وجلالها، فلا يعني المرء إلاّ بنفسه، لا يبالي في سبيل مجده أن يهدم غيره ولو لم يقف له في طريق، رغم أن الإسلام كلفنا بجميل الخصال ومحاسن الخلال لنفعلها فيما بيننا ونقوم بها نحو العالم أجمع، طارحين على اختلاف الديانات والمذاهب غطاءاً كثيفا، وحجاباً غليظاً، لأن الخطر الذي يداهم الإنسانية والشرور التي تغمرها وتطغى على ما بقي في النفوس من هيبة واحترام للنظم الإلهية لا تجيء من أديان المخالفين وإنما تجيء من الإلحاد، ومن المذاهب التي تقدس المادة وتعبدها، وتستهين بتعاليم الأديان وتعدها هزؤاً ولعباً.
فطريق الإصلاح في العالم الإسلامي المتموج بموجات الاضطراب بعد أن منيت الأُمة الإسلاميّة بالانحلال واستحوذت عليها الفوارق أن نجعل دعوتنا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الذي لا يجرح العواطف، وننهض للعمل الجدي المتواصل لتوحيد فِرَق التوحيد وجمع كلمة المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتوحيد صفوفهم، وتقريب بعضهم من بعض، وتحقيق الوحدة الإسلاميّة التي أخذنا على عاتقنا تمهيد مقدماتها، والسعي لتحقيق الوحدة العربية التي هي بمثابة الحجر الأساسي لبناء الوحدة الإسلاميّة الكبرى، ثم التدرج في الارتقاء إلى مرحلة الوحدة الدينية مع أهل سائر الأديان السماوية المدلول عليها بقوله تعالى ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً﴾ الخ. والانتهاء إلى الإخاء الإنساني الشامل المشار إليه بقوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ الخ.
ونعلن على العالم أن الله تعالى وصف نفسه في كتابه المعجز الخالد بأنه رب العالمين ولم يفاضل بين الناس فيما به قوام حياتهم الجسمية فهو لا يرضى أن يفاضل فيما به قوام حياتهم الروحية. وأن الإسلام تسليم بالأديان على ما نزلت من عند الله وتصديق بالأنبياء السابقين من غير تفريق بينهم وبهذا ضمن أحسن الوسائل لاستخلاص الاتحاد والوفاق ونشر راية السلام على جميع عناصر البشر وسائر المتدينين بالأديان الإلهية فقال تعالى:﴿وقولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ ليفهم العالم أن الإسلام يؤكد الوحدة الدينية ويفسح الطريق للقوة الدينية تعمل على الإخاء الإنساني ويحث على كسب الفضائل الخلقية والمعاني الاجتماعية السامية، ويدعو أهل الأديان السماوية إلى العمل مع المسلمين على توجيه التشريع إلى تأييد الأصول العامة المشتركة في الأديان كالتوحيد والمعاد، وبهذا وحده يمكن أن ننقذ الأُمة الإسلاميّة والبشر أجمع من الوهدة التي رمتها بها الأغراض والمطامع والفوارق، ونجعل من أمتنا هذه أمة مرهوبة الجانب موفورة الكرامة لها من المكانة في المجتمع البشري ما يؤهلها للتكالف مع سائر المتدينين والوقوف تجاه تيار الإلحاد والفوضى الأخلاقية، والدفاع عن الإسلام باعتباره صديقاً للعلم والمدنية. ولا يتحقق هذا الغرض إلا بإيجاد مؤتمر إسلامي عالمي يمثل فيه جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتتجدد دوراته من حين لحين في مختلف الممالك الإسلاميّة ليتشاوروا ويضعوا الخطط للدفاع عن الجبهة المشتركة.
وإذا قدر لهذا المؤتمر العام أن يقوم بأعماله وهي توحيد شعور المسلمين وتوحيد ثقاقتهم وتقريب صلاتهم الدينية وتكوين الأخوّة الإسلاميّة الشاملة فليس له أن يغير شيئاً من جوهر المذاهب الإسلاميّة وعناصرها الأولية، وليس المقصد توحيد المذاهب، لأن حكمة اختلاف الآراء سنة الله في الكون، قال الله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ والسر فيه أن بالاختلاف يظهر الحق والحقيقة الناصعة لأن الرأيين المتخالفين كقوتي السلب والإيجاب في الكهرباء اللتين يتولد منهما النور ولكن الشرط المهم فيه حفظ التوازن فإذا فقد التوازن حصل الاحتراق فكذلك حال اختلاف الآراء فإنه يؤدي إلى ظهور الحق إذا روعيت شروط المناظرة والجدل، ولهذا لا تنتج السفسطة شيئاً أصلا سوى الابتعاد عن الحق بل المقصود أن لا يتخذ المسلمون هذه الاختلافات المذهبية معولاً هداماً لأساس الدين وقاطعاً للرابطة الدينية التي هي أقوى من الروابط الاجتماعية والعنصرية والجغرافية سيما في الشرق بعد أن خلت السياسة في الغرب في مكان الدين.
وأن ينصرف المسلمون إلى البحث والإسهاب في مواضيع لها أكبر مساس بحياتنا الاجتماعية وتداوي أمراضنا الخلقية، وتهذب عاداتنا القومية، وتعدل اعوجاجاً سرى في طبقاتنا المختلفة فانحلت به روابط الأُمة المؤتلفة فأصابنا التخاذل والتدابر، وأصبح شعارنا الشكوى والتلاوم، وضعف فيما بيننا أداء ذلك الواجب الذي كنا به خير أمة أخرجت للناس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

كانت زيارته الأولى لمصر ـ فخار الإسلام والشرق ـ تهانيه لزعماء الأُمة مركز الأزهر الديني ـ الرابطة الإسلاميّة وأثرها ـ علماء الشيعة ونظرتهم إلى العالم الإسلامي ـ المذهب البهائي واتجاهه ـ التقدم العلمي والسياسي في العراق وإيران ـ سعادة وزير إيران وجريدة المصري.
كانت الساعة التاسعة صباحاً حين ذهبت لمقابلة الإمام الكبير الشيخ عبد الكريم الزنجاني ضيف مصر العظيم، وقدرأيته رجلا مهيب الطلعة تلوح عليه علامات العلم والتقوى وأمارات الإمامة والزعامة، تقدمت إليه فصافحني بحرارة، ثم هنأته بسلامة الوصول، فشكرني وشكر جريدة (المصري)، لاهتمامها به، وبعد أن تناولنا القهوة دار بيننا الحديث الآتي: وكان موجوداً معنا في ذلك الوقت حضرة صاحب العزة عبد الحميد كازروني بك رئيس الجمعية الخيرية وعزيز مهدي بك وكيل الرئيس والأستاذ عباس غالب سكرتيرها.
سألت فضيلته: هل سبق لفضيلتكم زيارة مصر قبل الآن ؟ وهل تقصدون غرضاً معيناً؟
فأجاب هذه أول مرة أزور فيها مصر بعد أن كنت في شدة الشوق لزيارتها منذ أمد بعيد، وإني لمسرور جداً أن وقعت زيارتي لهذه البلدة (التي هي في طليعة البلاد الإسلاميّة بل الشرقية لنشر التعاليم الدينية والأساليب المدنية) في هذه السنة التي نالت فيها الأُمة المصرية استقلالها بجهودها الجبارة وتضحيتها الفذة، وإني أهنيء الأُمة المصرية الكريمة برجالها الأبطال، وسأنتهز فرصة وجودي هنا لأطلع على المناهج والنظم المتبعة في الأزهر الشريف لاقتباس ما يناسب منها في معاهد النجف الأشرف التي هي عاصمة العلوم الدينية والفلسفية الكبرى في الشرق الإسلامي، والمركز الأعلى لعلماء الشيعة الإمامية الإثني عشرية ومراجع تقليد المسلمين.
وعلماء الشيعة رجال منصفون يهمّهم قبل كل شيء صالح الإسلام وجمع الكلمة واستعادة حياة الأُمة الإسلاميّة الواقفة على شفير الفناء وهو الهلكة بسبب الخصومة السياسية التي أوجدها العثمانيون في الصبغة الدينية، وهم يتبعون سيرة إمامهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ الذي قال في بعض خطبه: «لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا» ويبذلون قصارى جهودهم في سبيل تحقيق الوحدة الإسلاميّة ولا يسجلون تنقداً لآراء أصحاب الفرق الإسلاميّة إلاّ بالحكمة والتي هي أحسن طرق إظهار الحقيقة.
__________________________
1 ـ نقلا عن جريرة «المصري» 21 شعبان 1355 ـ 6 نوفمبر 1936.


قلت: ماذا ترون في نهضة مصر الحديثة، وما هو أثر هذه النهضة في نفوس إخواننا الشيعة.
فقال فضيلته: إن لمصر عظيمة من حيث مر كزيتها الأدبية والدينية في نفوس الشيعة وسائر المسلمين في أنحاء المعمورة ويتمنون لها مستقبلا كبيرا. إن من المعلوم أن الملل الغربية إنّما تحكم على أفكارها الجهة السياسية فقط، ولهذا ربما يكره الكاثوليكي الألماني من هو على مذهبه في فرنسا.
ومنذ أمد بعيد والحاكم على أفكار المسلمين إنّما هو الدين، والمسلمون رغم اختلافهم من حيث العنصر والأوطان لم يزل كل مسلم يحب لأخيه المسلم كمال الرقي وبلوغ المراتب السامية مهما فرقت بينهما الأوطان وميز بينهما العنصر، ولا تزال هذه الروح سائدة في المسلمين عموماً وفي الشيعة خصوصاً في جميع الأقطار، والشيعي حتّى الإيرانيين منهم يبحث عن النهضة العربية وعن الوحدة العربية لعلمه بأنها مقدمة للوحدة الإسلاميّة التي تجمع كلمة أربعمائة مليون مسلم، وقد قام الجهابذة من أعلام الدين وأفذاذ الرجال المصلحين في النجف الأشرف وسائر الأقطار الشيعية يبذلون السعي الحثيث لتوحيد كلمة فرق التوحيد وينشرون الدعوة للاتحاد الذي أدرك كل ذي حس وشعور أنّه نظام الأُمة الإسلاميّة وأهم العوامل لاخفاق الدعايات التي تبث ضد التعاليم الإسلاميّة لعلمهم بأن الوحدة الإسلاميّة هي القوة الأدبية المستتبعة للقوى المادية التي أمرنا الله تعالى بإعدادها حيث قال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» الخ.
وسكت فضيلته قليلا، فقلت: ما هي نقطة الخلاف الأساسية بينكم وبين بقية المسلمين في البلاد الإسلاميّة؟
فابتسم ثم قال: لا يوجد أمر جوهري يفرق بين المسلمين أصلا فكلهم يعتقدون بآله واحد، ونبي ـ صلى الله عليه وآله ـ واحد، وكتاب واحد ومعاد جسماني ويصلّون إلى قبلة واحدة ويعملون بالفروع والتعاليم الإسلاميّة وما يترائى من الخلاف بين الفريقين إنّما هو في الناحية الاجتماعية من نواحي التعاليم الإسلاميّة، ومن آثار الأيادي السياسية التي حاولت التدخل في المنصب الإلهي.
وهنا رأيت أن أعرف من فضيلته شيئاً عن مركز البهائيين وذلك لأن إيران وبغداد تعتبر موطنهم الأكبر، فسألت فضيلته: هل يوجد في بلادكم عدد كبير يعتنق المذهب البهائي ؟ وما هو موقف الشعب والحكومة منهم ؟
فأجاب: الشعب الشيعي لا يعرف ما عبرتم عنه خطاءاً بالمذهب البهائي إلاّ كرأي سياسي دبر في المغرب لكسر شوكة الدين الإسلامي ولا يوجد في بلادنا من يستحسنه سوى شرذمة من مطايا الاستعمار الأجنبي، ومن الواضح أن الآراء السياسية ذات تغير وتبدل لا تلائم مختلف العصور والأحوال والبلاد، وأما الدين أو المذهب فلابد من أن يحتوي على عنصر سماوي وجوهر روحي يستطيع الإنسان أن يجمع به سعادة الآخرة على سعادة الدنيا، ويتمكن من تطبيق تعاليمها في جميع الظروف والأحوال، ولا يوجد في الرأي البهائي شيء من هذا، وإنّما هناك مناقضات ومخالفات وكلمات ينقض بعضها البعض، وكل من يعرف شيئاً من فلسفة الدين والسر الطبيعي لتجدد الأديان والناموس العقلي لخاتمية الدين الإسلاميّة لا يعتنق غير الإسلام الذي هو الصورة النهائية الكاملة والمثل الأعلى الدين.
ولما وصل فضيلته إلى هذه النقطة تقدم إليه عزيز بك وقال: إن سعادة وزير إيران سيحضر لفضيلتكم بعد ربع ساعة فقال فضيلته: أهلا وسهلا، وأردت أن أكتفي بهذا ولكن فضيلته استوقفني وطلب مني أن أكمل ما لدي فقلت لم يبق عندي إلاّ أنني كنت أود أن أسمع شيئاً عن مدى التقدم العلمي والسياسي في بلادكم ومقدار صلاتها بجيرانها. فقال:
العلوم الدينية أعني الفقه وأصول الفقه والتفسير والحديث وكذلك العلوم العربية والرياضية والفلسفية والمنطق وغيرها كانت موجود منذ نحو الألف سنة في النجف الأشرف وكانت قبلها في له وبغداد كما كانت في إصفهان وبعض بلاد إيران، ولم تزل في تقدم مستمر حتّى الآن ومنذ القرن السابق تحسنت أصول التدريس والبحث والتأليف ومناهج التعليم وكان تقدمنا باهراً، وأما التقدم السياسي فغني عن البيان ويكفيكم منه ما يشاهده الكل في العراق وإيران من تقدمها في أقصر وقت تقدماً يدهش العقول، وصلاتنا بجيراننا حسنة والحمد لله.
وهنا كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ودنى موعد سعادة الوزير فهممت بالانصراف ولكن سعادة مهدي بك والأستاذ غالب طلبا مني الانتظار فلبيت الطلب، وبعد دقائق حضر سعادة الوزير ولما علم سعادته أنني من محرري (المصري) صافحني بقوة وقال: (انه شديد الإعجاب بجريدة المصري وبغزارة مادتها وحسن أسلوبها وهو يعتبرها رغم حداثتها الجريدة الأولى التي يحبها).


زار سماحة الإمام الزنجاني (كلّيتي الشريعة واللغة) في الأزهر أمس صباحاً وبعد أن ألقى كلمته البليغة ونصح الأساتذة والطلاب توجه إلى دار المحكمة العليا الشرعية فاستقبله في باب الدار أصحاب الفضيلة الأستاذ الشيخ فتح الله سيلمان رئيسها، ونائبها ورئيس المحكمة الابتدائية الشرعية بالحفاوة والتكريم وبعد أن أمضى معهم فترة غادر المحكمة إلى الجامع الأزهر الشريف حيث زار الأقسام الثانوية وودّع بعاصفة قوية من الأساتذة والطلاب، ثم زار فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومكث معه نحو ساعة ونصف ساعة يتحادثان في الشؤون الإسلاميّة الهامة ثم انصرف مودعاً بالاحترام والتكريم وخرج الأستاذ الأكبر لمشايعته إلى خارج المعاهد.

كتب إلينا أحد مندوبي الجهاد يقول:
علمت منذ يومين أن إماماً جليلا وعالماً كبيراً من علماء النجف المشهود لهم بالذكاء والفطنة قد وصل القاهرة واستقبل في المحطة استقبالا باهراً، وأنه ينزل في فندق (مودرن) في شارع عماد الدين وعلمت فوق هذا أن مهمته التي جاءت به إلى مصر إنّما هي: (توحيد كلمة المسلمين وفحص أنظمة الأزهر والمعاهد الدينية ودرس الحياة العامة في مصر من جميع نواحيها) فاشتاقت نفسي إلى التعرف به والتحدث إليه وقصدت إلى فندق (مودرن) الذي يقيم فيه ووجدت عنده العالم الصيني السيد عبد الرحيم ماسونتين وعدداً من عظماء العلماء وكبراء المسلمين الشرقيين، وجعل العالم الصيني يوجه الأسئلة إلى فضيلة الإمام الكبير الشيخ عبد الكريم الزنجاني فيجيب عليها إجابة ينم عن كثرة اطلاعه وعلومه وقوة ذكائه، فسهل علي مهمتي، ورأيت أن أقتصر على تدوين ما سمعته من الأسئلة والأجوبة:
________________________________
1 ـ نقلا عن جريدة «الاهرام» 4 ـ 5 ـ 11 ـ 1936.
2 ـ نقلا عن جريدة «الجهاد» 18 شعبان 1355 ـ 3 نوفمبر 1936.


الأستاذ الصيني: هل يتفضل الإمام الزنجاني فيحدثنا عن حالة المسلمين في بلاده؟
المسلمون في بلادنا في تقدم مستمر ورقي متواصل، وهم يحسون بما يحسّ به كل مسلم من ضرورة الارتباط والالفة، ويدركون حقائق التعاليم الإسلاميّة كل الإدراك سواء كانت عبادات أو اعتقادات أو حقوق أو معاملات، ويعلمون أن العقائد الإسلاميّة الأصلية مثل عليا للعقيدة وصور صحيحة وآيات ثابتة لا يمكن أن يعتورها نقص ولا تبديل.
وأن العبادات الإسلاميّة لاحتوائها على ملاكات خفية وأسرار غامضة تعبديات توقيفية لا يمكن للبشر أن يغير فيها بوجه أصلا، ولا غرو فيها كما زعم العقول الناقصة إذا بعد حكم العقل بوجوب شكر المنعم وتعظيم من يستحق التعظيم فللعظيم أن يختار لعبده في مقام تعظيمه أفعالا مخصوصة بكيفيات معينة، كهيئات السلام والاحترام التي اختار كل ملك وكل دولة شكلا خاصاً منها ولا ينكرها الناقصون الذين يستغربون التعبديات الدينية، ولكن القسم الثالث من التعاليم الإسلاميّة المشتمل على الحقوق المتبادلة والاجتماعيات وإدارة الشؤون الداخلية والخارجية، وما يمتّ بصلة إلى الاقتصاد والعمران والسياسة، وعلى الجملة كلما يعود بالسعادة على نبي الإنسان في دنياه فهو يتطور حسب تطور ناموس الحياة وهذا سر خاتمية الإسلام وأنه دين عام وخالد.
ويضاف إلى هذا انّ للدين الإسلامي مزية مخصوصة لا توجد في سائر الأديان السماوية وهي ناموس الخاتمية وهي انه جمع بين الروحيات والماديات واستخلص منهما مزيجاً ربانيا يجمع بين السعادتين الدنيوية والاخروية إذ جعل الأعمال بالنيات، فالتجارة والكسب والسعي لتحصيل الأموال بقصد الانفاق على واجب النفقة أو التوسعة في معاش عائلته أو بنية صرفها في وجوه البر والخير عبادة إسلامية بالمعنى الأعم للعبادة وهو مايؤتى به بقصد التقرب إلى الله في إزاء المعنى الأخص للعبادة وهو (ما لا يصح بدون قصد التقرب إلى الله تعالى).
قد كان الدين الذي أتى به موسى كليم الله عليه السلام محتويا على جهات مادية أكثر من الجهات الروحانية بمقتضى الظروف والأحوال والحالات البشرية حينئذ حسب ما جاء في التوراة واليه أشار في القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر﴾ والغرب رمز المادة، وجاء الدين العيسوي ـ عليه السلام ـ محتويا على الجهات الروحية المحضة أكثر من الجهات المادية فأمر بالزهد والرهبانية والتخلي عن العالم الفاني حسب اقتضاء الزمن والنفسية البشرية عندئذ كما صرح به الإنجيل وأشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿وأذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا﴾ والشرق رمز الروح، ويتم هذا الاستدلال بقوله تعالى ﴿وجعلنا ابن مريم وأمه آية﴾ ولم يقل آيتين، ولكن تعاليم الدين الإسلامي لا شرقية ولا غربية، ولا روحية محضة ولامادية صرفة بل جاءت جامعة بينهما وحاوية للسعادة المزدوجة سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
هل في النجف خلاف في المذاهب الإسلاميّة ؟.
الاختلاف في فروع الدين يوجد في جميع المذاهب الإسلامية وفي جميع البلاد، ولكن المسلمين رغم اختلافهم في المذاهب يعلمون أن الدين الإسلامي دين الفطرة والالفة والسعادة المزدوجة وسلاح لا يغلب، ولكن السلام لا يمكن أن يقاتل إلا بالجنود، والجند لا ينتصر إلاّ بالنظام، والاتحاد نظام الأُمة الإسلاميّة وبه تتحقق الالفة ويرتفع الشقاق، والخلاف بين الشيعة والسنة لا يزيد على ما يوجد بين المذاهب الأربعة السنية، والفرق الإسلاميّة كلها تعتقد بالأصول الدينية، واختلاف الأُمة في غير أصول الدين رحمة كما جاء في الحديث.
التاريخ يحدثنا بأن الإسلام دخل بلاد الصين عن طريق بلاد فارس والمسلمون في الصين يعبّرون حتّى الآن عن الوضوء بكلمة «آب دست» والصينيون يدرسون هذا الدين من كتب الشيعة، فهل تتفضل ببيان عقائد أهل الشيعة؟
الجواب: عقائد الشيعة الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقضاء والقدر وتصديق نبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ رسول الله في جميع ما علم مجيئه به والإذعان القلبي لذلك من العبادات والمعاملات والأوامر والنواهي والخضوع والانقياد ظاهراً وباطناً لذلك والنطق بالشهادتين.
وتعتقد الشيعة الإمامية: أن تعاليم الإسلام ثلاثة أنحاء، وهي: العقائد والعبادات، والقوانين المقررة لحفظ سلسلة النظام من النظم الاجتماعية وقوانين المعاملات والحقوق المتبادلة، وأصول إدارة شؤون المسلمين، وقد أشرنا إلى أن العقائد الأصلية آيات ثابتة، والعبادات توقيفية محضة لا يمكن فيها تغيير ولا تبديل، ولكن محيط الدين الإسلامي في ناحية الجهات الاجتماعية والشؤون الدنيوية، والنظم السياسية يسع جميع عناصر البشر في كل زمان ومكان، ويتمشى مع تطورات الزمان وتعلم الشيعة أن الدين الإسلامي، علم وعمل، ووظائف للعقل ووظائف للجسد، وتعتقد الشيعة بجميع أصول هذا الدين الحنيف وفروعه وتعمل بها بكل عناية ودقة.
عقيدة الشيعة في التوحيد
إن مراتب التوحيد أربع، توحيد الذات، وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال، وتوحيد الآثار، وبعبارة أخرى، توحيد العوام، وتوحيد الخواص، وتوحيد خاص الخاص وتوحيد أخص الخواص، والأولى مدلول كلمة «لا إله إلاّ الله» والثانية معنى كلمة (لا هو إلاّ هو) والثالثة مفاد ( لاحول ولا قوة إلاّ بالله) والى الرابعة تشير كلمة (لا مؤثر في الوجود إلاّ الله) والشيعة تشارك سائر المسلمين في الاعتقاد بالمرتبة الأولى وتساهم بعض طوائفهم في الاعتقاد بالمرتبة الثانية ولكنها تمتاز عنهم جميعا بعقيدة توحيد خاص الخاص وهو مجموع توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وتمتاز أيضاً بعقيدة توحيد أخص الخواص، وهو مجموع توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد الآثار.
وأخذوها من إمامهم الأعظم سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ولهذه المراتب شروح وتفاصيل لا يسع المقام لذكرها، فعقيدة الشيعة أن الله تعالى واجب الوجود بذاته ولذاته وفي ذاته، ومنزّه عن التجسم والحلول والتركيب والنقائص، ومستجمع لجميع صفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والعدل ونحوها، وان صفاته الحقيقية عين ذاته وهو الواحد الأحد لاشريك له في الألوهية ولا في المعبودية ولا في الفاعلية، وما سواه من العالم صنيعه لا إله غيره ولا معبود سواه ولا حول ولا قوة إلاّ به له الخلق والأمر ولا مؤثر غير في عالم الوجود، هو المستقل بالخلق والرزق والموت والحياة والإيجاد والإعدام، فمن اعتقد أن شيئاً من الرزق أو الخلق أو الموت أو الحياة لغير الله فهو كافر مشرك خارج عن ربقة الإسلام ولا تجوز العبادة إلاّ لله وحده لا شريك له.
عقيدة الشيعة في النبوة
تعتقد الشيعة الإمامية أن جميع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم والرسول الخاتم ـ صلى الله عليه وآله ـ رسل من الله وعباد مكرمون بعثهم الله لدعوة الخلق إليه، وأن محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خاتم الأنبياء وسيد الرسل، وأنه معصوم من الخطأ والخطيئة، وأنه ما ارتكب المعصية مدة عمره وما فعل إلا ما يوافق رضا الله سبحانه حتّى قبضه الله إليه وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين (القرآن الكريم) هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام، وتميز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وأن كل من اعتقد أو ادعى نبوة بعد نبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ أو نزول وحي أو كتاب فهو كافر.

عقيدة الشيعة في الإمامة
تعتقد الشيعة الإمامية أن الإمامة رئاسة في الدين والدنيا، ومنصب إلهي يختاره الله بسابق علمه ويأمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بأن يدل الأُمة عليه ويأمرهم باتباعه، والإمام حافظ الدين وتعاليمه من التغيير والتبديل والتحريف وحيث أن الإسلام دين عام خالد كلف به جميع عناصر البشر، وتعاليمه فطرية أبدية أراد الله بقائه إلى آخر الدنيا فلابد أن ينصب الله إماما لحفظه في كل عصر لكل لا يتوجه نقض الغرض المستحيل على الحكيم تعالى، ولأجله أمر الله نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ بأن ينص على علي ـ عليه السلام ـ ففعل ـ صلى الله عليه وآله ـ ثم أحد عشر إماماً من ولده؛ ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، وهذه سنة الله سبحانه في جميع الأنبياء من آدم ـ عليه السلام ـ إلى الخاتم ـ صلى الله عليه وآله ـ والشيعة مع هذه العقيدة يقدرون ما قام به الخلفاء من بسط راية الإسلام على البسيطة، وتشكيل الإمبراطورية الإسلاميّة وليست الإمامة عند الشيعة أصلا من أصول الدين الإسلامي وإنّما هي أصل من أصول مذهب الشيعة فليس منكرها خارجا عن الإسلام إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد وضروريات الدين، بل هو مسلم غير شيعي في عقيدة الإمامية له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
عقيدة الشيعة في المعاد
تعتقد الشيعة الإمامية كما يعتقد سائر المسلمين أن الله سبحانه يعيد الخلائق، ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء ولولاه لما صح التشريع.
وان المعاد هو الشخص بعينه وبجسده وروحه بحيث لو رآه الرائي لعرفه، ويؤمنون بجميع ما في القرآن الكريم والسنة القطعية من الجنة والنار ونعيم البرزخ وعذابه والميزان والصراط والأعراف والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وان الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخير، وان شراً فشر، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.

فروع الدين عند الشيعة
تعتقد الشيعة الإمامية أن لله في كل واقعة حكما حتّى أرش الخدش وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون إلا ولله تعالى بحسب الدين الإسلامي فيه حكم من الأحكام الخمسة الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة. وما من معاملة على مال أو عقد نكاح ونحوهما إلاّ وللشرع الإسلامي فيه حكم صحة أو فساد أودع الله جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء، وعرفها النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بالوحي ثم بينها حسب حدوث الوقائع وحصول الابتلاء مراعياً حكمة التدريج ثم أودع البقية عند أوصيائه ـ عليهم السلام ـ وانتهى الأمر إلى الاجتهاد في الفروع الذي يقضي كون الإسلام دينا عاما خالد بلزوم فتح بابه دائماً.
وتعتقد الإمامية كسائر المسلمين بوجوب الصلاة والصوم والزكاة والخمس والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبجميع ما قرره الدين الإسلامي من الحقوق المتبادلة والنظم الكافية، وأنه الدين الوحيد الذي يتمشى مع الزمان في كل أطواره، ويدور مع الدهر في جميع أدواره، ويسد حاجات البشر في نظم معاشهم ومعادهم وجلب صلاحهم ودرء فسادهم.


اجتمع أحد مندوبي (الجهاد) بالسيد عبد الرحيم ماسونتين الزعيم الصيني وضيف مصر الآن وكان عند اجتماعه به يزور المجتهد الأكبر الامام الشيخ عبد الكريم الزنجاني في الفندق الذي يقيم فيه الإمام الزنجاني في مصر. فأخذ الإمام الزنجاني يوجه أسئلة إلى السيد عبد الرحيم عن حالة المسلمين في الصين وعن مهمته في مصر فردّ على أسئلة الإمام رداً مفصلاً نقله إلينا مندوب الجهاد فيما يلي:
إن بلاد الصين تنقسم إلى 33 مقاطعة، وعدد المسلمين فيها 50 مليوناً وأكثرهم يقطن في الجهة الشمالية المتاخمة لبلاد التركستان، ولقد كانت العلاقة بين المسلمين وبين حكومة الصين على أتم وفاق إلى أن جاء الحكم المنشوري فقلب للمسلمين ظهر المجن وتنكر لهم تنكراً كان من جرّائه أن ضعفت حالتهم وخضدت شوكتهم ووهنت بحكم اضطهاد الحكومة جامعتهم. لكن لما كان الدين الإسلامي دين الفطرة وانه إذا تمكن من القلوب استعصي انتزاعه منها بالقوة، بقيت تعاليمه يتوارثها الابن عن الاب إلى أن شبت في بلاد الصين ثورة دموية كان من زعمائها القائد العظيم (سنوشيان) فناضل عن الإسلام والمسلمين نضالا سجله له التاريخ بمداد من الفخر فأعاد للمسلمين مكانهم في تلك البلاد وبذا تحسنت حالهم وبدأت تنتعش.
___________________________
1 ـ نقلا عن جريدة (الجهاد) 20 شعبان 1355 ـ 5 نوفمبر 1936.


ومنذ ثلاثين سنة اجتمع كثير من زعماء المسلمين في تلك البلاد ففكروا في أن ينهضوا ببلادهم نهضة علمية دينية فأتجه نظرهم نحو دار الخلافة فأرسلوا العالم الكبير خاجة عبد الرحمان المفتي إلى تركيا فلما عرض مهمته على السلطان عبد الحميد في ذلك الحين أمر بإرسال بعثة إلى بلاد الصين مكونة من اثنين من العلماء وقد استمر الحال على ذلك إلى عهد السلطان محمد الخامس وبعد ذلك بقليل قامت فتن في غالب البلاد الشرقية صرفت الناس عن هذا المعنى السامي وجاءت الحرب العالمية فحالت بين المسلمين وبين إخوانهم في سائر أنحاء العالم الإسلامي.
ولما وضعت الحرب أوزارها واستتب الأمن نوعا في ربوع الصين هب المسلمون لرأب هذا الرجوع ووجدوا من حكومة الصين الحاضرة خير معوان لاستكمال هذه النهضة وجمع شتات ما فرقته أحداث الزمن فأوفدتني ـ منذ أربع سنوات ـ كبريات الجمعيات الإسلاميّة إلى مصر لأنها أصبحت في نظر العالم الإسلامي محط رحال زعماء الشرق وقادته فأكرمت مصر وفادتي، ووجدت أخوانا وخلاّناً ساعدونني على القيام بما جئت من أجله خير مساعدة. وقد نلت حظوة التحدث إلى جلالة الملك الراحل فؤاد الأول فتفضل رحمه الله وأمر في ذلك الحين بإرسال مجموعة من الكتب القيمة اعتزمت بحول الله أن اجعلها نواة المكتبة التي أريد إنشائها وتسميتها باسم (المكتبة الفؤادية) تخليداً لذكرى ذلك الرجل العظيم الذي كان عامل من العوامل المهمة على بعث النهضة الدينية والثقافية في بلادنا من جديد.
مهمتي الثانية
أما مهمتي اليوم في مصر فهي:
أولا تقديم واجب العزاء باسم الجمعيات الصينية في المرحوم الملك فؤاد. وتهنئة جلالة الملك فاروق بارتقائه عرش آبائه وأجداده وسأذهب غدا إلى سراي عابدين للتشرف بمقابلة مجلس الوصاية الموقر وتحديد موعد لمقابلة جلالة الملك فاروق.
ثانياً: لمقابلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي لأتحدث إلى فضيلته في شأن البعثات الأزهرية والإكثار منها لأن البعثة الأزهرية الأولى أفادت المتعلمين في بلادنا كثيراً ولقد تقابلت اليوم مع فضيلته فشملني بعطفه وتفضل حفظه الله فوعدني ببذل ما يستطيعه الأزهر من أنواع المساعدات.
ثالثا: لأن مصر كما قلت آنفا ملتقى الثقافات شرقيها وغربيها، آية ذلك أني تمكنت من مقابلة إمام عظيم مثلك (يقصد الامام الزنجاني) في مقدوره أن يمدّ إلينا يد المساعدة خصوصاً وأن علاقة الصين ببلاد العرب والفرس علاقة قديمة، وسأتشرف بحمل رسالتكم السامية إلى بلادي ونرحب بدعوتكم وننضوي جميعا تحت لوائكم لواء الوحدة الإسلاميّة فرد عليه الإمام الزنجاني بما ملخصه:
نحن يا أيها السيد على استعداد لمساعدتكم سواءاً كان من ناحية الكتب العلمية في الثقافتين العربية والفارسية وفي أي لغة تفهم في الصين وكذلك من ناحية إيفاد العلماء الذين يمكن أن تستفيد منهم بلادكم في الدين والثقافة، وكم أكون سعيداً لو تفضل السيد ماسونتين بزيارة النجف الأشرف عاصمة العلوم الدينية في الشرق، تلك البلدة العريقة في المدينة، فقد ازدهرت بالعلوم والمعارف منذ عهد هارون الرشيد وهذا كما تعلمون قبل أن يوجد الأزهر المعمور بمراحل، ففي بلادنا تدرس العلوم الدينية وتنتظم أقسام التخصص في العلوم، ومعاهدها مستعدة لقبول بعثتكم النجفية.
فرد السيد ماسونتين قائلا: ندعو الله أن يوفقنا.