الشيخ محمد عبد اللطيف دراز

الشيخ محمد عبد اللطيف دراز

 

الشيخ محمد عبد اللطيف دراز
مدير الأزهر والمعاهد الدينية وهو أحد الأعضاء المؤسسين لجماعة التقريب
 

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

له في التقريب:
بزغت شمس الهداية الإسلاميّة من هذا الشرق على حين فترة من الرسالات وضلالة من الناس، واختلاف بالأهواء والشهوات، وظلم من الأقوياء للضعفاء واستبداد من الحاكمين بالمحكومين وسيطرة لقوى الفساد، وعوامل الضعف والانحلال وتردٍّ في مهاوي الرذيلة اصبح به الإنسان الناطق أحط درجة من الحيوان الأعجم، واضطربت به شؤون الحياة واختلفت موازينها، ووقف به العلم على شفا حفرة من النار والدمار.
فلما بزغت هذه الشمس الساطعة بدد الله بها هذا الظلام الدامس، وأحيا بها تلك القلوب الميتة وسلط شعاعها الوهاج على كل ناحية من نواحي الحياة، وألف بها بين المتنافرين، واصلح بين المتخاصمين، واسفل العداوات التي أنهكت القوى، وانزع السخائم التي عطلت المواهب وطغت على العقول، فإذا أمة ناشئة فتية متحدة متعاونة ترفع بيمينها راية الإصلاح العالمي في العقيدة والشريعة والنظام والسياسة والعلم والأخلاق، وتهدي للتي هي أقوم وتنادي بالحق والعدل، وتحارب الفساد والظلم، وتعلن لأول مرة حق الإنسان في أن يعيش حرا كما خلقه الله، وحل العقل في أن ينطلق حرا في مجال الكون يفكر ويتتبع ويستقري فيستدل ويستنبط، وحق المجتمع في نعمة الأمن والطمأنينة والقرار.
انطلق المسلمون يحملون هذه الراية، وينشرون هذه الرسالة، فتفتحت أمامهم أبواب العالم، وانطوت فيهم المدنيات. وتمثلت في ثقافتهم الثقافات كما تتمثل في جني النحل ازاهير النبات، وأعاصير الثمار، وولجوا بالقرآن كل باب، واستجلوا بالسنة المطهرة كل غامض، وكانت عقولهم صافية، وقلوبهم صافية فلم تعبث الأوهام والخرافات بالأولى، ولم تفسد الأضغان والأحقاد بالثانية، فكانوا في العلم والفكر هداة راشدين. وفي التعاون والتضافر على الحق والخير مثلا عليا للمتقين، ووقف العالم ينظر إليهم مذهولا مشدوها، وأحس أرباب السلطان وأعوان الطغيان بالأرض تميد تحتهم وتضطرب بهم وأدرك الباطل والفساد أن قوة لا تقاوم تزلزل عليهما عرشهما وتوّض بناءهما، وان مصيرهما أمام هذه القوة الانهزام والاندحار أو التسليم والاستخذال فآثر الأخرى على الأولى، وخفضا رأسيهما إلى حين حتّى إذا واثتها الفرصة حين أثمرت عوامل التفرق الأول بين المسلمين ثمارها وتقطعت الأواصر واستلّت سيوف الاخوة على الاخوة، بدا قرن الفتنة، وتحركت الأفاعي الكامنة المتلبدة، وانطلقت من مكامنها، تلبس لباسا يواري سوآتها وتظهر في صور شتى، وألوان مختلفة. مرة في السياسة بإثارة الأحقاد وبث الفتن والمكائد وإذكاء نيران العصبية، وتخوف كل فريق من الآخرين، ومرة بإفساد العلم والفكر عن طريق الوضع والافتراء والتأويل الفاسد وإثارة الشُبه، والخوض فيما نهى الله ورسوله عنه وتخرج المسلمون الأولون منه وبهذه وجدت الأحزاب السياسية، وانبعثت العداوات القديمة والإحن الماضية من مراقدها
وتفرقوا شيعا فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبر
وبهذا وجدت الفرق الدينية، واشتغل الناس عن المثمر من العلم والنظر بالخلاف فيما لا يغني ولا يجدي، وامتلأت البلاد من أقصاها إلى أقصاها بالفتن السياسية والعلمية، وشخصت الكتب بآثار هذا الخلاف فاختلط الحق بالباطل، وشيب الصالح بالفاسد، وتوالت على ذلك القرون والأجيال، والضعف يتبع الضعف، والداء يسري من جانب إلى جانب، حتّى أفضى الضعف السياسي إلى تلك النكبات التي يلاقيها المسلمون على أيدي المستعمرين وأفضى الضعف الفكري إلى تبلبل أفكار الأُمة، وتفاوت النظر فيها، فمن عالم ينادي بأن كذا هو الحق، وما سواه باطل بل هو الدين وما سواه كفر والحاد، ومن آخر يعكس ويزري على الأولين، ومن طائفة تكلف على نفسها، وتؤمن بما عندها، وتخاف من كل طائفة سواها، إلى طائفة تظن بها الظنون، وتفرض فيها السوء وتحمل عليها وتنبز علماءها وتحقر أهلها.
وقد غذيت هذه الخلافات، وهذه السياسات بكثير من الروايات الملفقة والأحاديث الموضوعة، والأخبار المفتراة، وامتلأت كتب التفسير والمغازي والمناقب بما لا يحصى من الأكاذيب، واصبح بجوار كل آية في كتاب الله رواية من الروايات تحمل عليها، بل تلوى إليها، وفسر القرآن بما يوافق أصحاب الآراء، وقيل من الأحاديث ما يؤيدهم، وطعن من يخالفهم، واشتبه الأمر فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يصح وفيما لا يصح ليس على الوسط من الناس فحسب ولكن على ذوي العقول الراجحة والذكاء الألمعي أيضاً، ولم يسلم من ذلك إلاّ من عصم الله وقليل ما هم.
وقد شهدت الأُمة الإسلاميّة مع هذا نوعا من أنواع الخلاف والتفرق هو خلاف الاتباع والمتعصبين للأئمة الذين التزام مذهب من المذاهب بعينه دينا لا يجوز للمسلم أن يخالفه، وادرجوا ذلك في حكم العقائد، ورتبوا عليه مسائل بحثوا فيها حكم من قلد غير الأربعة، ومن قلد غير إمامه حتّى من الأربعة، ومن لفق في العبادة أو المعاملة بين مذاهب عدة، ومن أفتى بغير الراجح أو المعلول عليه أو المفتى به، أو بتعبير أدق، بغير ما وصف في الكتب بأنه كذلك، إلى غير ذلك من المسائل التي ما أثارها إلاّ العصبية المذهبية، والتي قامت بنصبها في تفريق الأُمة الإسلاميّة.

بات المسلمون من ذلك كله في ضعف وقاسوا منه أهوالا شدادا، وأدرك المخلصون من أبناء هذه الأُمة أن لا نجاة لها مما وقعت فيه إلاّ إذا عادت ما كانت عليه في عهدها الأول، حين كان الشمل مجتمعا، والعلم صافيا، والدين واضحا، والمرجع كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ التي صحت روايتها واستقامت دلالتها، ينزل على حكمتها المختلفون، ويصطلح عليها المتخاصمون(1)
____________________________________
1 ـ رسالة الإسلام 1: 223، و 2: 18، 148، 357، و 3: 141، 368، 376.