بسم الله الرحمن الرحيم .
- 1 - سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون .
- 2 - الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .
يقول تعالى هذه السورة أنزلناها فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها { وفرضناها } قال مجاهد : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود وقال البخاري : ومن قرأ { فرضناها } يقول : فرضناها عليكم وعلى من بعدكم { وأنزلنا فيها آيات بينات } أي مفسرات واضحات { لعلكم تذكرون } ثم قال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } يعني هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد وللعلماء فيه تفصيل فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا وهو الذي لم يتزوج أو محصنا وهو الذي وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية ويزاد على ذلك إما أن يغرب عاما عن بلده عند جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة C فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال أحدهما : يا رسول الله إن ابن هذا كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى : الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها ( أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ) . وفي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا فإما إذا كان محصنا فإنه يرجم كما روى الإمام مالك .
عن ابن عباس أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضنوا بترك فريضة قد أنزلها الله فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال ومن النساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف " ( أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا ) . وفي رواية عنه : " ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت " ( أخرجه الإمام أحمد والنسائي ) . وقال ابن عمر : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت : كنا نقرأ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة قال مروان : ألا كتبتها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب فقال : أنا أشفيكم من ذلك قال قلنا : فكيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال : فذكر كذا وكذا الرجم فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال : " لا أستطيع الآن " هذا أو نحو ذلك ( أخرجه الحافظ الموصلي عن محمد بن سيرين ) . وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولا به والله أعلم . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم برجم هذه المرأة لما زنت مع الأجير ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( ماعزا ) و ( الغامدية ) ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه جلدهم قبل الرجم ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة كما روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة ابن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .
وقوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } أي في حكم الله أي لا ترأفوا بهما في شرع الله وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك قال مجاهد { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل وقد جاء في الحديث : " تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب " وفي الحديث الآخر : " لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " وقيل : المراد { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم وليس المراد الضرب المبرح قال عامر الشعبي : رحمة في شدة الضرب وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح وقال : هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها قال نافع : أراه قال : وظهرها قال قلت : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها وقد أوجعت حين ضربتها وقوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى وشددوا عليه الضرب ولكن ليس مبرحا ليرتدع هو من يصنع مثله بذلك وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها فقال : " ولك في ذلك أجر " وقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا قال الحسن البصري في قوله : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } : يعني علانية والطائفة الرجل فما فوقه وقال مجاهد : الطائفة الرجل الواحد إلى الألف وكذا قال عكرمة ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان وقال الزهري ثلاثة نفر فصاعدا وقال الإمام مالك : الطائفة أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أربعة شهداء فصاعدا وبه قال الشافعي وقال الحسن البصري : عشرة وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين : أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا