176 - يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم .
قال البخاري عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء قال آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت يستفتونك وقال الإمام أحمد عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل قال فتوضأ ثم صب علي - أو قال صبوا عليه - فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فأنزل الله آية الفرائض . وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } الآية ( أخرجه الشيخان ) وكأن معنى الكلام والله أعلم : يستفتونك عن الكلالة { قل الله يفتيكم } فيها فدل المذكور على المتروك وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحدي بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها أكثر العلماء : بمن يموت وليس له ولد ولا والد . ومن الناس من يقول : الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه هذه الآية : { إن امرؤ هلك ليس له ولد } وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب Bه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وباب من أبواب الربا ( يعني ما نزل آخر سورة البقرة من آيات الربا وقد نزلت بعد آية آل عمران { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فهل الربا فيهما واحد على القاعدة أم هو في الأخيرة أعم ؟ استشكل عمر Bه والجمهور على الثاني واستشكاله في إرث الجد والكلالة أشهر وأظهر ) عن عمر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم الكلالة فقال : " يكفيك آية الصيف " فقال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم ( قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا ) وكأن المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف والله أعلم ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلّم إلى تفهمها فإن فيها كفاية نسي أن يسال النبي صلى الله عليه وسلّم عن معناها ولهذا قال : فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم .
وقال ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال : سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلّم عن الكلالة فقال : " أليس قد بين الله ذلك " فنزلت : { يستفتونك } الآية . قال قتادة : وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته : ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة .
قوله تعالى : { إن امرؤ هلك } أي مات قال الله تعالى : { كل شي هالك إلا وجهه } كل شي يفنى ولا يبقى إلا الله D كما قال : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله : { ليس له ولد } تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتقاء الوالد بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد . ويدل على ذلك قوله : { وله أخت فلها نصف ما ترك } ولو كان معها أب لم ترث شيئا لأنه يحجبها بالإجماع فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ولا والد بالنص عند التأمر أيضا لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية .
وقال الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن ( زوج وأخت لأب وأم ) فأعطى الزوج النصف والأخت النصف فكلم في ذلك فقال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قضى بذلك . وقد روي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتا وأختا إنه لا شيء للأخت لقوله : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } قال فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا فلا شي للأخت خالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض وللأخت النصف الآخر بالتعصيب بدليل غير هذه الآية وهذه الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري عن الأسود قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم النصف للبنت والنصف للأخت .
وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال : للإبنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني فسال ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلّم النصف للبنت ولبنت الأبن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأتيا فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .
وقوله تعالى : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد أي ولا والد لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئا فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم وصرف الباقي إلى الأخ لما ثت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر " وقوله : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } وقوله : { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والأخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين .
وقوله تعالى : { يبين الله لكم } أي يفرض لكم فرائضه ويحد لكم حدوده ويوضح لكم شرائعه . وقوله : { أن تضلوا } أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان { والله بكل شيء عليم } أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده وما يستحقه كل واد من القرابات بحسب قربه من المتوفى . وقال ابن جرير عن سعيد ابن المسيب : أن عمر كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول : اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحى ولم يدر أحد ما كتب فيه فقال : إني كتبت كتابا في الجد والكلالة وكنت أتسخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه . قال ابن جرير وقد روي عن عمر Bه أنه قال : إني لاستحي أن أخالف فيه ابا بكر وكان أبو بكر Bه يقول : هو ما عدا الولد والوالد وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وقول علماء الأمصار قاطبة وهو الذي يدل عليه القرآن كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله { يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم } والله أعلم