شرائط الوجوب .
و أما شرائط الوجوب فأنواع : .
منها : أن يكون الرجوع بعد القضاء فإن كان قبله لا يجب الضمان لما ذكرنا أن الركن في وجوب الضمان بالشهادة وقوع الشهادة إتلافا و لا تصير إتلافا إلا إذا صارت حجة و لا تصير حجة إلا بالقضاء فلا تصير إتلافا إلا به .
و منها : مجلس القضاء القضاء فلا عبرة بالرجوع عند غير القاضي كما لا عبرة بالشهادة عند غيره حتى لو أقام المدعى عليه البينة على رجوعهما لا تقبل بينته و كذا لا يمين عليهما إذا أنكر الرجوع إلا إذا حكيا عند القاضي رجوعهما عند غيره فيعتبر رجوعهما لأن ذلك بمنزلة إنشاء رجوعهما عند القاضي فكان معتبرا .
و منها : أن يكون المتلف بالشهادة عين مال حتى لو كان منفعة لا يجب الضمان لأن الأصل أن المنافع غير مضمونة بالإتلاف عندنا و على هذا يخرج ما إذا شهدا أنه تزوج هذه المرأة بألف درهم و مهر مثلها ألفان و هي تنكر فقضى القاضي بالنكاح بألف درهم ثم رجعا لا يضمنان للمرأة شيئا لأنهما أتلفا عليها منفعة البضع و المنفعة ليست بعين مال حقيقة و إنما يعطى لها حكم الأموال بعارض عقد الإجارة .
و كذا لو ادعت امرأة على رجل أنه طلقها على ألف درهم و الزوج ينكر فشهد شاهدان فقضى القاضي ثم رجعا لم يضمنا للزوج شيئا لأنهما بشهادتهما أتلفا على الزوج المنفعة لا عين المال .
و على هذا لو ادعى رجل أنه استأجر هذه الدابة من فلان بعشرة دراهم و أجر مثلها مائة درهم و المؤجر ينكر فشهد شاهدان و قضى القاضي ثم رجعا لا يضمنان للمؤجر شيئا لأنهما بشهادتهما أتلفا المنفعة لا عين المال .
و منها : أن يكون إتلاف المال بغير عوض فإن كان بعوض لا يجب الضمان سواء كان العوض عين مال أو منفعة لها حكم عين المال لأن الإتلاف بعوض يكون إتلافا صورة لا معنى و على هذا يخرج ما إذا ادعى رجل على رجل أنه باع عبده منه بألف درهم و المشتري ينكر فشهد شاهدان بذلك و قضى القاضي ثم رجعا أنه ينظر إن كانت قيمة العبد ألفا أو أكثر فلا ضمان عليهما للمشتري لأن شهادتهما وقعت إتلافا بعوض فلا يكون إتلافا معنى فلا يوجب الضمان و إن كانت قيمته أقل من ألف يضمنان الزيادة له لوقوع الشهادة إتلافا بقدر الزيادة و لو كانت الدعوى من المشتري و المسألة بحالها إن كانت قيمته مثل الثمن المذكور أو أقل لا ضمان على الشاهدين للبائع لما قلنا .
و إن كانت قيمته أكثر من ألف يضمنان الزيادة للبائع لأن شهادتهما وقعت إتلافا بغير الزيادة .
و على هذا يخرج ما إذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها على ألف درهم و الرجل ينكر فشهد لها شاهدان بذلك و قضى القاضي بالنكاح بألف ثم رجعا أنه ينظر إن كان مهر مثلها ألفا أو أكثر من ذلك لم يضمنا للزوج شيئا و إن أتلفا عليه عين المال لأنهما بعوض له حكم عين المال و هو البضع لأنه يعتبر مالا دخوله في ملك الزوج بدليل أن الأب يملك أن يزوج من ابنه امرأة و لو لم يعتبر البضع مالا حال دخوله في ملك الزوج لما ملك لأن الأب لايملك على ابنه معاوضة مال بما ليس بمال .
و كذلك المريض إذا تزوج امرأة على ألف درهم و ذلك مهر مثلها لا يعتبر من الثلث بل من جميع المال و لو لم يكن البضع في حكم المال في حال الدخول في ملك الزوج لاعتبر من الثلث كالتبرع دل أن البضع يعتبر مالا في حق الزوج حال دخوله في ملكه فكان الإتلاف بعوض هو في حكم عين المال فلا يكون إتلافا معنى و إن كان مهر مثلها أقل من ألف درهم يضمنان الزيادة على مهر المثل للزوج لأنهما أتلفا الزيادة عليه من غير عوض أصلا و هذا بخلاف ما إذا ادعى رجل على امرأة أنه طلقها بألف درهم و المرأة تنكر فشهد شاهدان بذلك و قضى القاضي عليها بألف درهم ثم رجعا أنهما يضمنان للمرأة ألف درهم لأنهما أتلفا عليها عين المال بغير عوض أصلا لأن البضع حال خروجه عن ملك الزوج لا يعتبر مالا بدليل أن الأب لا يملك أن يخلع من ابنته الصغيرة على مال و لو فعل و أدى من مالها يضمن و لو كان مالا لملك لأنه يملك عليها معاوضة مال بمال .
و كذلك المريضة إذا اختلعت من نفسها حال مرضها على مال يعتبر من الثلث كالوصية و لو كان له حكم المال لاعتبر من جميع المال كما في سائر معاوضات المال بالمال و إذا لم يكن له حكم المال حال الخروج عن ملك الزوج حصلت شهادتهما إتلافا عليهما من عوض أصلا فيجب الضمان .
و على هذا يخرج ما إذا ادعى أنه آجر داره من فلان شهرا بعشرة دراهم و المستأجر ينكر فشهد شاهدان بذلك و قضى القاضي ثم رجعا فأما إن كان في أول المدة ينظر إن كان أجرة الدار مثل المسمى لا ضمان عليهما للمستأجر و لو أتلفا عليه عين مال لكن بعوض له حكم عين المال و هو المنفعة لأن المنفعة في باب الإجارة لها حكم عين المال .
و إن كانت أجرة مثلها أقل من المسمى فإنهما يضمنان الزيادة لأن التلف بقدر الزيادة حصل بغير عوض أصلا و إن كانت الدعوى بعد مضي مدة الإجارة فعليهما ضمان الأجرة لأنهما أتلفا عليه من غير عوض أصلا فكان مضمونا عليهما و على هذا يخرج ما إذا شهد شاهدان على القاتل أنه صالح و لي القتيل على مال و القاتل ينكر فقضى القاضي بذلك ثم رجعا أنهما لا يضمنان شيئا للقاتل لأنهما أتلفا عليه عين مال بعوض و هو النفس لأن النفس تصلح أن تكون عوضا بدليل أن المريض وجب عليه القصاص فصالح الولي على الدية جاز و لا تعتبر من الثلث بل من جميع المال و لو لم تصلح النفس عوضا لاعتبر من الثلث دل أن هذا إتلاف بعوض فلا يوجب الضمان إلا إذا شهدا على الصلح بأكثر من الدية فيضمنان الزيادة على الدية للقاتل لأن تلف الزيادة حصل بغير عوض و يمكن تخرج هذه المسائل على فصل التسبب لأن ما قابله عوض لا يكون إتلافا معنى فلم يوجد سبب وجوب الضمان فلا يجب فافهم ذلك و يستوي في وجوب الضمان الرجوع عن الشهادة و الرجوع على الشهادة حتى لو رجعت الفروع و ثبت الأصول يجب الضمان علىالفروع لوجود الإتلاف منهم لوجود الشهادة منهم حقيقة و لو رجع الأصول و ثبت الفروع فلا ضمان على الفروع لانعدام الرجوع منهم و هل يجب الضمان على الأصول ؟ قال أبو حنيفة و أبو يوسف رحمهما الله : لا يجب و قال محمد : يجب .
وجه قوله : أن الفروع لا يشهدون بشهادة أنفسهم و إنما يفعلون بشهادة الأصول فإذا شهدوا فقد أظهروا شهادتهم فكأنهم حضروا بأنفسهم و شهدوا ثم رجعوا .
وجه قولهما : أن الشهادة وجدت من الفروع لا من الأصول لعدم الشهادة حقيقة فإنهم لم يشهدوا حقيقة و إنما شهد الفروع و هم ثابتون على شهادتهم فلم يوجد الإتلاف من الأصول لعدم الشهادة منهم حقيقة فلا يضمنون .
و على هذا إذا رجعوا جميعا فالضمان على الفروع عندهما و لا شيء على الأصول لوجود الشهادة من الفروع حقيقة لا من الأصول و عنده المشهود عليه بالخيار إن شاء ضمن الفروع و إن شاء ضمن الأصول لوجود الشهادة من الفريقين و لو لم يرجع أحد من الفريقين و لكن الأصول أنكروا الإشهاد فلا ضمان على أحد لانعدام الرجوع عن الشهادة و يستوي في وجوب ضمان الرجوع رجوع الشهود و المزكين عند أبي حنيفة حتى إن المزكين لو زكوا الشهود فشهدوا و قضى القاضي بشهادتهم ثم رجع المزكون ضمنوا عنده و عندهما رجوع المزكين لا يوجب الضمان .
وجه قولهما : أن رجوع المزكين بمنزلة رجوع شهود الإحصان لأن التزكية ليست إلا بناء عن الشهود كالشهادة على الصفات التي هي خصال حميدة ثم الرجوع عن الشهادة على الإحصان لا يوجب الضمان كذا هذا .
و لأبي حنيفة : أن التزكية في معنى الشهادة في وجوب الضمان لأن الرجوع عن الشهادة إنما يوجب الضمان لوقوعه إتلافا و إنما يصير إتلافا بالتزكية ألا ترى أنه لولا التزكية لما وجب القضاء فكانت الشهادة عاملة بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة فكانت إتلافا بخلاف الشهادة على الإحصان لأن الإحصان شرط كون الزنا علة و الحكم للعلة لا للشرط