فصل في بيان كيفية الغسل .
فصل : و أما بيان كيفية الغسل فنقول : يجرد الميت إذا أريد غسله عندنا و قال الشافعي C تعالى : لا يجرد بل يغسل و عليه ثوبه استدلالا بغسل النبي صلى الله عليه و سلم [ حيث غسل في قميصه ] .
و لنا : أن المقصود من الغسل هو التطهير و معنى التطهير لا يحصل بالغسل و عليه الثوب لتنجس الثوب بالغسالات التي تنجست بما عليه من النجاسات الحقيقية و تعذر عصره و حصوله بالتجريد أبلغ فكان أولى .
و أما غسل النبي صلى الله عليه و سلم في قميصه فقد كان مخصوصا بذلك لعظم حرمته فإنه روي أنهم لما قصدوا أن ينزعوا قميصه قيض الله عز و جل السنة عليهم فما فيهم أحد إلا ضرب ذقنه على صدره حتى نودوا من ناحية البيت لا تجردوا نبيكم و روي [ غسلوا نبيكم و عليه قميصه ] فدل أنه كان مخصوصا بذلك و لا شركة لنا في خصائصه و لأن المقصود من التجريد هو التطهير و أنه صلى الله عليه و سلم كان طاهرا حتى قال علي Bه حين تولى غسله : طبت حيا و ميتا و يوضع على التخت لأنه لا يمكن الغسل إلا بالوضع عليه لأنه لو غسل على الأرض لتلطخ ثم لم يذكر في ظاهر الرواية كيفية وضع التخت أنه يوضع إلى القبلة طولا أو عرضا فمن أصحابنا من اختار الوضع طولا كما يفعل في مرضه إذا أراد الصلاة بالإيماء و منهم من اختار الوضع عرضا كما يوضع في قبره و الأصح أنه يوضع كما تيسر لأن ذلك يختلف باختلاف المواضع و تستر عورته بخرقة لأن حرمة النظر إلى العورة باقية بعد الموت .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تنظروا إلى فخذ حي و لا ميت ] و لهذا لا يباح للأجنبي غسل الأجنبية دل عليه ما روي عن عائشة Bها أنها قالت [ كسر عظم الميت ككسره و هو حي ] ليعلم أن الآدمي محترم حيا و ميتا و حرمة النظر إلى العورة من باب الاحترام .
و روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يؤزر بإزار سابغ كما يفعله في حياته إذا أراد الاغتسال و الصحيح ظاهر الرواية لأنه يشق عليهم غسل ما تحت الإزار ثم الخرقة ينبغي أن تكون ساترة ما بين السرة إلى الركبة لأن كل ذلك عورة و به أمر في الأصل حيث قال : و تطرح على عورته خرقة هكذا ذكر عن أبي عبد الله البلخي نصا في نوادره ثم تغسل عورته تحت الخرقة بعد أن يلف على يده خرقة كذا ذكر البلخي لأن حرمة مس عورة الغير فوق حرمة النظر فتحريم النظر يدل على تحريم المس بطريق الأولى و لم يذكر في ظاهر الرواية أنه هل يستنجي أم لا ؟ .
و ذكر في صلاة الأثر أن عند أبي حنيفة C تعالى يستنجي و على قولهما : لا يستنجي هو يقول قلما يخلو موضع الاستنجاء عن النجاسة الحقيقية فلا بد من إزالتها و أبو يوسف و محمد يقولان : إن المسكة تسترخي بالموت فلو استنجى ربما يزداد الاسترخاء فتخرج زيادة نجاسة فكان السبيل فيه هو الترك و الاكتفاء بوصول الماء إليه و لهذا و الله أعلم لم يذكره في ظاهر الرواية فلعل محمدا رجع و عرف أيضا رجوع أبي حنيفة حيث لم يتعرض لذلك في ظاهر الرواية ثم يوضأ وضوءه للصلاة لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال للاتي غسلن ابنته : [ ابدأن بميامنها و مواضع الوضوء منها ] و لأن هذا سنة الاغتسال في حالة الحياة فكذا بعد الممات لأن الغسل في الموضعين لأجل الصلاة إلا أنه لا يمضمض الميت و لا يستنشق لأن إدارة الماء في فم الميت غير ممكن ثم يتعذر إخراجه من الفم إلا بالكب و ذا مثلة مع أنه لا يؤمن أن يسيل منه شيء لو فعل ذلك به و كذا الماء لا يدخل الخياشيم إلا بالجذب بالنفس و ذا غير متصور من الميت و لو كلف الغاسل ذلك لوقع في الحرج و كذا لا يؤخر غسل رجليه عند التوضئة بخلاف حالة الحياة لأن هناك الغسالة تجتمع عند رجليه و لا تجتمع الغسالة على التخت فلم يكن التأخير مفيدا و كذا لا يسمح رأسه .
و يمس في حالة الحياة في ظاهر الرواية لأن المسح هناك سن تعبدا لا تطهيرا و ههنا لو سن لسن تطهيرا لا تعبدا و التطهير لا يحصل بالمسح ثم يغسل رأسه و لحيته بالخطمي لأن ذلك أبلغ في التنظيف فإن لم يكن فبالصابون و ما أشبهه فإن لم يكن فيكفيه الماء القراح و لا يسرح لما روي عن عائشة أنها رأت قوما يسرحون ميتا فقالت : علام تنصون ميتكم أي تسرحون شعره و هذا قول روي عنها و لم يرو عن غيرها خلاف ذلك فحل محل الإجماع و لأنه لو سرح ربما يتناثر شعره و السنة أن يدفن الميت بجميع أجزائه و لهذا لا تقص أظفاره و شاربه و لحيته و لا يختن و لا يختن و لا ينتف إبطه و لا تحلق عانته و لأن ذلك يفعل لحق الزينة و الميت ليس بمحل الزينة و لهذا لا يزال عنه شيء مما ذكرنا و إن كان فيه حصون زينة و هذا عندنا .
و عند الشافعي C تعالى : يسرح و يزال عنه شعر العانة و الإبط إذا كانا طويلين و شعر الرأس يزال إن كان يتزين بإزالة الشعر و لا يحلق في حق من كان في حال الحياة و كان يتزين بالشعر .
و احتج الشافعي : بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم ] ثم هذه الأشياء تصنع بالعروس فكذا بالميت .
و لنا : ما روينا عن عائشة و ذكرناه من المعقول و به تبين أن ما رواه ينصرف إلى زينة ليس فيها إزالة شيء من أجزاء الميت كالطيب و التنظيف من الدرن و نحو ذلك بدليل ما رويناه ثم يضجعه على شقه الأيسر لتحصل البداية بجانبه الأيمن إذ السنة هي البداية بالميامن على ما مر فيغسله بالماء القراح حتى ينقيه و يرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه ثم قد كان أمر الغاسل قبل ذلك أن يغلي الماء بالسدر فإن لم يكن سدر فحرض فإن لم يكن واحد منهما فالماء القراح ثم يضجعه على شقه الأيمن فيغسله بماء السدر أو الحرض أو الماء القراح حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه ثم يقعده و يسنده إلى صدره أو يده فيمسح بطنه مسحا رقيقا حتى إن بقي شيء عند المخرج يسيل منه هكذا ذكر في ظاهر الرواية .
و روي عن أبي حنيفة C تعالى في غير رواية الأصول أن يقعده و يمسح بطنه أولا ثم يغسله بعد ذلك و وجهه أنه قد يكون في بطنه شيء فيمسح حتى لو سال منه شيء يغسله بعد ذلك ثلاث مرات فيطهر .
و وجه ظاهر الرواية أن الميت قد يكون في بطنه نجاسة منعقدة لا تخرج بالمسح قبل الغسل و تخرج بعد ما غسل مرتين بماء حار فكان المسح بعد المرتين أولى و الأصل في المسح ما روي : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما تولي غسله علي و العباس و الفضل بن العباس مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و علي أسند رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى نفسه و مسح بطنه مسحا رقيقا فلم يخرج منه شيء فقال علي Bه : طبت حيا و ميتا ] .
و روي أنه لما مسح بطنه فاح ريح المسك في البيت ثم إذا مسح بطنه فإن سال منه شيء يمسحه كيلا يتلوث الكفن و يغسل ذلك الموضع تطهيرا له عن النجاسة الحقيقية و لم يذكر في ظاهر الرواية سوى المسح و لا يعيد الغسل و لا الوضوء عندنا و قال الشافعي : يعيد الوضوء استدلالا بحالة الحياة .
و لنا : أن الموت أشد من خروج النجاسة ثم هو لم يمنع حصول الطهارة فلأن لا يرفعها الخارج مع أن المنع أسهل أولى ثم يضجعه على شقه الأيمن فيغسله بالماء القراح حتى ينقيه ليتم عدد الغسل ثلاثا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال للاتي غسلن ابنته : [ اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا ] و لأن الثلاث هو العدد المسنون في الغسل حالة الحياة فكذا بعد الموت فالحاصل أنه يغسل في المرة الأولى بالماء القراح ليبتل الدرن و النجاسة ثم في المرة الثانية بماء السدر أو ما يجري مجراه في التنظيف لأن ذلك أبلغ في التطهير و إزالة الدرن ثم في المرة الثالثة بالماء القراح و شيء من الكافور .
و قال الشافعي C تعالى : في المرة الأولى لا يغسل بالماء الحار لأنه يزيده استرخاء فينبغي أن يغسله بالماء البارد و هذا غير سديد لأنه إنما يغسله ليسترخي فيزول عنه ما عليه من الدرن و النجاسة ثم ينشفه في ثوب كيلا تبتل أكفانه كما يفعل في حالة الحياة بعد الغسل و حكم المرأة في الغسل حكم الرجل و كذا الصبي في الغسل كالبالغ لأنه غسل الميت للصلاة عليه و الصبي و المرأة يصلى عليهما إلا أن الصبي إذا كان لا يعقل الصلاة لا يوضأ عند غسله لأن حالة الموت معتبرة بحالة الحياة و في حالة الحياة لا يعتبر وضوء من لا يعقل فكذا بعد الموت و كذا المحرم و غير المحرم سواء لأن الإحرام ينقطع بالموت في حق أحكام الدنيا و الله أعلم