قوله : 194 - { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم { والحرمات } جمع حرمة كالظلمات جمع ظلمة إنما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام والحرمة : ما منع الشرع من انتهاكه والقصاص : المساواة والمعنى : أن كل حرمة يجري فيها القصاص فمن هتك حرمة عليكم فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصا قيل : وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال وقيل : إنه ثابت بين أمة محمد A لم ينسخ ويجوز لمن تعدى عليه في مال أو بدن أن يتعدى بمثل ما تعدى عليه وبهذا قال الشافعي وغيره وقال آخرون : إن أمور القصاص مقصورة على الحكام وهكذا الأموال لقوله A : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] أخرجه الدارقطني وغيره وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني والقول الأول أرجح وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي وحكاه الداودي عن مالك ويؤيده إذنه A لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها وهو في الصحيح ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى أعني قوله : { والحرمات قصاص } وإنما سمى المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : [ لما سار رسول الله A معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصه الله منهم نزلت في ذلك هذه الآية { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه أيضا وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { فمن اعتدى عليكم } الآية وقوله : { وجزاء سيئة } الآية وقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه } الآية وقوله : { وإن عاقبتم } الآية قال : هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان بقهر المشركين فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتى إليه أو يصبروا ويعفوا فلما هاجر رسول الله A إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم ولا يعدوا بعضهم على بعض كأهل الجاهلية فقال : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } الآية يقول : ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله تعالى انتهى وأقول : هذه الآية التي جعلها ابن عباس Bه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له فإن الظاهر من قوله : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } أنه جعل السلطان له : أي جعل له تسلطا يتسلط به على القاتل ولهذا قال : { فلا يسرف في القتل } ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصا للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخا لها فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده وتلك الآيات شاملة له ولغيره وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه