وأما السبب الثاني وهو الأقوى لأن الروح أمر رباني به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أو معنى كونه ربانيا أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله A // حديث أنه A لم يظهر سر الروح أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود وقد تقدم .
ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلا إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال .
فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوبا بالطبع للإنسان والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصا في حقها إذ لم تكن منفددة بكمال معنى الشمسية والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته بل هو قائم به فلم يكن موجودا معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال بل الكامل من لا نظير له في رتبته .
وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصانا في الشمس بل هو من جملة كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ولا يكون متبعا فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال .
وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكنه ليس يجد له مجالا وهو كما قال فإن العبودية قهر على النفس .
والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى قل الروح من أمر ربي ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته .
وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك فأن تكون مستوليا عليه فصار الاستيلاء على الكل محبوبا بالطبع لأنه نوع كمال .
وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخرا لك تردده كيف تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه .
إلا أن الموجودات منقسمة إلى مالا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته .
وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولي عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين وكالجبال والبحار .
وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات .
فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم والعالم كالمستولي عليه فلذلك أحب أن يعرف