تقيدت بالأوهام لما تداخلت عليك و نور العقل أورثك السجنا .
و همت بأنوار فهمنا أصولها و منبعها من أين كان فما همنا .
و قد تحجب الأنوار للعبد مثل ما يبعد من إظلام نفسٍ حوت ضعنا .
( 155 ) ستر أنوار السرائر بكثائف الظواهر إجلالاً لها أن تبتذل بوجود الإظهار وأن ينادى عليها بلسان الاشتهار .
يعني : أن الله سبحانه ستر أنوار قلوب أوليائه وهي ما تحققوا به من العلوم والمعارف بالظواهر الكثيفة أي الأحوال التي يتعاطونها كالصنائع كما تقدم في قوله : سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور البشرية . وإنما ستر هذه الأنوار مع أن من حقها الظهور التام لأجل صونها عن أن تبتذل بسبب وجود الإظهار لها أو ينادى عليها بلسان الاشتهار فإن في ذلك نوعاً من الاستخفاف بها . ولذلك ترى أهلها يبخلون بها إلا بالرمز والإشارة أدباً مع مولاهم وصوناً لنفيس ما خولهم وأعطاهم .
( 156 ) سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه .
يعني : أنه سبحانه كما احتجب بالأكوان عن العقول والأبصار ستر أوليائه بكثائف الظواهر من الصنائع الخسيسة صيانة لهم عن الأغيار .
ولا دليل على معرفتهم إلا العناية الإلهية التي بها عرفت الربوبية . كما قال بعض الأكابر : عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي .
فإذا أحبك الله وأراد أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته .
ص 116 .
وأشهدك وجود خصوصيته . فإنه لم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه لأنهم أحبابه فلا يحب أن يجمع عليهم إلا من جمع قلبه عليه .
( 157 ) ربما أطلعك على غيب ملكوته وحجب عنك الاستشراف على أسرار العباد .
أي ربما أطلعك مولاك - أيها المريد - على ملكوته الغائب عنك كالجنة والنار والعرش والكرسي وغير ذلك وحجب عنك الاستشراف أي الاطلاع على أسرار العباد وما في قلوبهم من خير أو شر لطفا منه تعالى بك فإنك ربما اطلعت على معصية فبادرت بمعاقبة صاحبها وعدم رحمته فتقع في الفتنة أي العجب على الناس بعملك فيكون ذلك سبباً لجر الوبال أي الهلاك إليك . كما قال المصنف : .
( 158 ) من اطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان اطلاعه فتنة عليه وسبباً لجر الوبال إليه .
وفي الحديث المسلسل بالأولية : " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " .
( 159 ) حظ النفس في المعصية ظاهر جلي وحظها في الطاعة باطن خفي ومداواة ما يخفي صعب علاجه .
يعني : أن النفس من شأنها أن تطلب ما فيه حظ لها غير أن حظها في .
ص 117 .
المعصية كالزنا وشرب الخمر ظاهر جلي وحظها في الطاعة باطن خفي لأن ظاهرها في الطاعة التقرب إلى الله وفي الباطن ليس لها حظ إلا إقبال الناس والاشتهار بالصلاح بينهم ولا يظهر ذلك إلا بعد التفتيش على دسائسها وهذا هو الداء العضال الخفي . ومداواة ما يخفى صعب علاجه لأنه يحتاج إلى دقة إدراك . ولذا كانت أهل البصائر يتهمون نفوسهم إذا مالت إلى عبادة من العبادات فإذا رأوا فيها حظاً لها تركوها . كما وقع لبعضهم : أنه حدثته نفسه بالخروج إلى الغزو وأظهرت له أن ذلك لله تعالى . فقال : يا رب نبهني لمقصدها فإني متهم لها . وفتش فإذا هو لأجل أن تستريح من تعب مجاهدته لها فإنه كل يوم يقتلها مرات عديدة بمنعها من شهواتها فأرادت أن تقتل مرة واحدة فتستريح فترك الخروج إلى الغزو واشتغل بما هو فيه .
( 160 ) ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الخلق إليك .
يعني : أن الرياء كما يدخل في عملك - أيها المريد - إذا عملته بحضرة الناس وهو الرياء الجلي يدخل عليك إذا عملته وحدك . وعلامته أن تقصد بعملك توقير الناس لك والمسارعة إلى قضاء حوائجك وأن تغضب على من قصر في حقك الذي تستحقه عند نفسك وربما تتوعده بمعاجلة العقوبة له من الله تعالى . فمن شاهد من نفسه شيئاً من هذه العلامات فليعلم أنه مراء بعمله وإن أخفاه على سائر المخلوقات . وهذا هو الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل ولا يسلم منه إلا العارفون الذين غيب الله نظرهم عن رؤية الخلق بما أودعه في قلوبهم من نور اليقين فلا يرجون من الخلق منفعة ولا يخشون منهم مضرة . فأعمال هؤلاء خالصة وإن كانت بين أظهر الناس .
قال بعض العارفين : أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت فيه على لون آخر . فتنبه لذلك والله يتولى هداك