( 161 ) استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك .
أي تطلعك - أيها المريد - وميلك إلى أن يعلم الخلق بخصوصيتك التي خصك الله بها من الأعمال الصالحة ونحوها دليل على عدم صدقك في عبوديتك لأن صدق العبودية طرح الأغيار اكتفاء بعلم العزيز الغفار .
قال بعض العارفين : من أحب أن يطلع الناس على عمله فهو مراء ومن أحب أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب . فعلى العبد إخفاء حاله جهده وأن يبلغ في كتمانه أقصى ما عنده . وهذه بالنسبة للمريدين فإن مبنى أمرهم في بدايتهم على الفرار من الخلق والانفراد بشهود الملك الحق وإخفاء الأعمال وكتمان الأحوال تحقيقاً لسلامة قلوبهم وحبا في إخلاصهم لمعبودهم . وأما إذا تمكن اليقين وأيدوا بالرسوخ والتمكين وتحققوا بحقيقة الفناء وردوا إلى وجود البقاء فلا بأس بإظهار الأعمال ومحاسن الأحوال للاهتداء بهديهم والاقتداء بفعلهم .
ثم بين الصدق مع الله في العبودية بقوله : .
( 162 ) غيب نظر الخلق إليك بنظر الحق إليك وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك .
يعني : إذا أردت أن تكون - أيها المريد - صادقاً في العبودية فغيب نظر الخلق إليك بأن لا يكون لك شهور بنظرهم إليك اكتفاء منك بنظر الله إليك وإقباله عليك فتغيب أدنى الحالين بأعلاهما . فإن نظر الخلق أمر وهمي باطل ونظر الله وإقباله بغية كل عاقل حيث إنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا خفضاً ولا رفعاً .
وأما إذا اغتررت بإقبالهم عليك قبل كمالك فإنه يوجب لك التصنع لهم ومداهنتهم ومعاشرتهم بالنفاق ونحوه ذلك .
ص 119 .
( 163 ) من عرف الحق شهده في كل شيء ومن فني به غاب عن كل شيء . ومن أحبه لم يؤثر عليه شيء .
أي من تحقق في مقام المعرفة بالله تعالى شهده في كل شيء لأن العارف إذا كان في مقام البقاء يرى الخلق والحق ويرى الحق ظاهراً في كل الأشياء وقائماً بها مع عدم غيبته عن نفسه وحسه . بخلاف من فني به أي من تحقق في مقام الفناء فإنه لا يرى في الوجود ظاهراً إلا الله تعالى ويغيب عن كل شيء سواه حتى عن نفسه وحسه فلا يكون منه على الأشياء اعتماد ولا له إليها استناد .
ومن أحبه تعالى لم يؤثر أي لم يقدم عليه سبحانه في المحبة شيئاً من مراداته وشهواته فضلاً عن غيرهما من الخلق لأن حقيقة المحبة أخذ جمال المحبوب بحبة القلب حتى لا يدعه لغيره في حال من الأحوال . فهذه الأمور علامات هذه المقامات . فلا تقبل ممن يدعيها إلا بهذه الشهادات .
( 164 ) إنما حجب الحق عنك شدة قربه منك .
يعني : أنه لما كان الحق أقرب إلى العبد من حبل الورد كانت شدة القرب حجاباً لأن الحجاب كما يكون بشدة البعد يكون بشدة القرب . فإن اليد إذا قربت من البصر والتصقت به لم يرها . وكذلك الرب لم نره لإحاطته بنا إحاطة تامة وقربه منا قرباً معنوياً .
ثم أكد ذلك بقوله : .
( 165 ) إنما احتجب لشدة ظهوره وخفي عن الأبصار لعظم نوره .
يعني : أن شدة ظهوره بآياته عين خفائه عن الأنام بذاته . كالشمس حجبت بالأنوار عن أن تدركها الأبصار . فهو الباطن الظاهر كما أنه الأول الآخر .
والحجاب في الحقيقة إنما هو من الخلق كضعف البصر عن مقاومة