وكذلك طلب الجزاء على الصدق - أي الإخلاص فيه - مما يتعجب منه لأنه مهديه إليك .
وإنما عبر في الأعمال بالصدقة وفي الصدق الذي عليه مدار قبول الأعمال بالهدية إشارة إلى تباينهما في الشرف كتباين الصدقة والهدية .
( 254 ) قوم تسبق أنوارهم أذكارهم وقوم تسبق أذكارهم أنوارهم .
يعني أن الواصلين إلى الله تعالى على قسمين : قوم تسبق أنوارهم أذكارهم وهم المجذوبون المرادون الذين لم يتكلفوا شيئاً بل واجهتهم الأنوار فحصلت منهم الأذكار .
وإذا حلت الهداية قلباً نشطت للعبادة الأعضاء .
وقوم تسبق أذكارهم أنوارهم وهم المريدون السالكون فمتى اجتهدوا في الأذكار حصلت لهم الأنوار واهتدوا لمرضاة العزيز الغفار . قال تعالى : .
ص 172 .
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ( 69 ) العنكبوت . ثم بين حال الفريقين بعبارة أخرى فقال : .
( 255 ) ذاكر ذكر ليستنير قلبه وذاكر استنار قلبه فكان ذاكراً .
الأول راجع للفريق الثاني وهم السالكون والثاني راجع للفريق الأول وهم المجذوبون وكل على نور .
( 256 ) ما كان ظاهر ذكر إلا عن باطن شهود وفكر .
يعني أن الذكر الظاهر - والمراد به الأعمال الظاهرة جميعها - لا تكون إلا عن باطن شهود الحق جل شأنه والتفكر في آثار قدرته فإن صلاح الظاهر تابع لصلاح الباطن . وإنما خص الذكر بالذكر من بين سائر الأعمال لأنه روحها والمقصود بالذات منها قال تعالى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } ( 14 ) طه . ثم وضح هذا المعنى بقوله .
( 257 ) أشهدك من قبل أن يستشهدك فنطقت بإلهيته الظواهر وتحققت بأحديته القلوب والسرائر .
أي أطلعك سبحانه على وحدانيته بتجلي أنوار المعارف على قلبك حتى شاهدت ذلك على حسب قدرك من قبل أن يستشهدك - أي يطلب منك أن تشهد بعظمته وجلاله بذكرك وعبادتك - فإن الذكر والعبادة شهادة منك بعظمة المذكور والمعبود فنطقت بألوهيته - أي ما يدل عليها - الظواهر - أي الجوارح - بأن أتت بالأعمال التي تكاد تنطق بعظمة ذي الجلال وهذا راجع للاستشهاد .
ص 173 .
وقوله : وتحققت بأحديته القلوب والسرائر راجع للإشهاد .
( 258 ) أكرمك بكرامات ثلاث : جعلك ذاكراً له ولولا فضله لم تكن أهلاً لجريان ذكره عليك . وجعلك مذكوراً به إذ حقق نسبته لديك . وجعلك مذكوراً عنده فتمم نعمته عليك .
يعني أن الله تعالى أكرمك أيها المؤمن بثلاث كرامات جمع لك فيهن أنواع الفضائل والمبرات . الأولى : جعلك ذاكراً له بلسانك وقلبك ووجه حلاوة ذلك إليك ولولا فضله لم تكن أهلاً لجريان ذكره عليك .
والثانية : جعلك مذكوراً به عند الناس بأن يقال : هذا ولي الله وذاكره إذ حقق نسبته - أي خصوصيته - لديك وهي ما أظهره من أنوار الذكر والطاعة عليك .
والثالثة : جعلك مذكوراً عنده فتمم نعمته عليك بمزيد الإكرام ومنتهى الفضل والإنعام .
وفي الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " .
وقال A : " ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " آه . والعندية هنا عندية مكانة - أي شرف - لا مكان تعالى الله عن ذلك