صحفة 180/
وليست المعرفة، وليس الجاه، أي ليس هذا الوجود الإنساني المشاهد سبيل اطمئنان الإنسان في حياته. فقد يكون ذا مال أو ولد، وقد يكون ذا معرفة أو جاء، وقد يكون صاحب هذا كله ومع ذلك قد يشقى بماله أو ولده أو معرفته أو جاهه.
قد يكون صاحب عقل نافذ، وصاحب مثالية في الحياة: يحدد المبادىء والمثل، ولكنه يشقى مع ذلك بعقله وبمثاليته.
ينام الإنسان وهو لا يعرف ما ذا أعده الغد له. الغد القريب والبعيد مجهول له. فان كان واقعيا حدد غده من أمسه، وان كان مثالياً أمل أن يرى ما تصوره مثالا في يومه السابق حقيقة واقعة في غده، ولو في غده البعيد. وقد يصبح تحديد الواقعي حدساً أو ظناً، وقد يتبين للمثالي أن أمله كان برقياً لمع ثم اختفى، وعندئذ يشقى كل منهما: ذاك يتخبطه، وهذا يفشله في أمله.
أما صاحب الايمان فقد استعان على مجهول الغد بقدر الله: ان أصاب من غده خيراً كان له متاع الحياة الدنيا، وان لم يصبه من خيره شيء كان ما عند الله خير له وأبقى.
عرفنا في الشرق الإسلامي (المثالية) و (الواقعية) من ثقافة الغرب الحديثة واصبح لهذه ولتلك أنصار هنا في مصر، ووراء مصر في عالمنا الإسلامي.
ولو أنا عرفنا أن الغرب لم يقصر في أنشودة المثالية، ولم يغتر حماسه الواقعية ومع ذلك قام بين شعوبه حرب عالمية خلفتها على الاثر حرب عالمية ثانية، وما زالت شعوبه في خوف وفي ترقب لحرب عالمية ثالثة ـ لو أنا عرفنا ذلك لأدركنا: أنهم لو آمنوا لكان خيراً لهم، ولنجوا من الحرب والخوف.
لنا (ايمان) أصبح هدفا لهذه المذاهب الإنسانية: تنال منه وتسخر منه أحيانا. وأولى أن نعصمه من السخرية والانتقاص منه. وأخشى ما أخشاه أن نفقده فلا نجد عنه بديلا في نفوسنا وحياتنا. ويومئذ نفقد كياننا وشخصيتنا، وندور في فلك غيرنا أتباعاً لا أحراراً.
/