ـ(115)ـ
الأحيان، ولا يبقى من الخلاف إلاّ آثار الجراح ولا ينتفع به إلاّ الأعداء.
ولقد كانت نداءات التفاهم والتقريب في تاريخ المسلمين كثيرة يطلقها زعماء الإصلاح وقادة الفكر ويعارضها طائفة من الّذين يحرصون أبداً على المحافظة على مألوفهم، ويكرهون أبداً الخروج على الأطر ولو كانت قيوداً وآصاراً، ولطالما اعترضوا على دعوات التقارب والحوار بأنها تهاون في عقيدة ومبدأ أو إدهان لخصم ما كر متربص لا يرضيه إلاّ أن تكون على مذهبه أو تتبع ملته وبمثل هذه الحجج والاتجاهات تبقى حبال الاتصال مقطوعة وأسباب التفاهم مبتوتة.
وربما غاب عن هؤلاء المعترضين أن التقارب إنّما يكون بين بعيدين أو متباعدين، فلو أن الطوائف لاخلاف بينها ولا خصام لما ظهرت حاجة إلى تقريب، ولو لم تشتجر بين المسلمين قضايا عويصة وشكوك مريبة لما عقدت المؤتمرات، ولا توالت التآليف والتفاسير!
والحق أن الأصول المشتركة واضحة وعليها الاعتماد، كما أن دواعي التقارب والوحدة أكثر من أن تحصى، ولكن الفكر أسير للقلب، فإذا طغت في القلب نوازع الخلاف والشك انصرف الفكر إلى قضايا الخلاف، وألحت عليه دواعي التأمل في القضايا والاستغراق في التعقيدات، حتّى إذا مال القلب إلى التوحيد ونزع إلى الأمل في الوحدة والتقارب انصرف الفكر عندئذ إلى مستمسكات الوحدة، ورأت بصيرة المرء أصول السمائل وفروعها وميزت بين الأقوال التي لا يجوز الوقوف عندها، والأقوال التي لا يفيد النزاع حولها، والأقوال التي تصلح لاخذ ورد وسؤال وجواب، وانصرفت بعد ذلك إلى الأمور التي تستحق العناية والتي لا تكون بدونها ملة ولا قبلة ولا حقاً ولا باطلاً، والتي إذا أغفلت استوى الكفر والإيمان والجنة والنار.
ومن المهم هنا أن نذكر أن النزعات التي أشرنا إليها آنفاً وان كانت أحياناً ميولا فردية ومزاجاً نفسياً عند بعض الأفراد إلاّ أن الأهم من ذلك أن عصور الانحطاط واليأس تكثر فيها نزعات الجمود ويشتد الميل إلى الشقاق، ويطول فيها