وكان لا يلبس المفرك ولا المصقول ويتوجه إلى الحمام في السحر وهو حامل الطاسة والمئزر ويقلب عليه الماء ويخرج وحده من غير بابا ولا مملوك . فاتفق أن رآه بعض من يعرفه فأخذ الحجر وحك رجليه وغسله بالسدر ولم يكلمه كلمةً واحدة فلما خرج طلبة ورماه وقتله وقال : أنا ما لي مملوك ما عندي بابية وما لي غلمان حتى تتجرى علي .
وعمر جامعاً ظاهر الحسينية وكان إذا توجه إليه عرف الناس خلقه فلا يدخل معه أحد من مماليكه ويخرج قوام الجامع ولم يبق معه أحد ويدور هو الجامع وحده يتفقده ويبصر إن كان تحت الحصر تراب أو في القناديل تراب فأي خلل رآه أحضر القيم وضربه . فلما كان بعض الأيام وهو بمفرده في الجامع المذكور لم يشعر إلا وجندي من أكراد الحسينية قد بسط سفرةً وقصعة لين ورقاق في وسطها وقال : بسم الله ! .
فالتفت إليه وقال : من أعلمك بي أو دلك علي ؟ قال : والله ولا أحد ! .
فطلب مماليكه وأكل وأمر له بستمائة درهم . فاتفق أن أتاه كردي آخر في الجامع بعد ذلك بمثل ذلك فرماه وضربه ستمائة عصاً . وكان قد اتخذ له صورة معيد في الجبل الأحمر يتوجه إليه ينفرد فيه وحده يومين وأكثر وأقل وربما واعد الغلام أن يأتي إليه بالمركوب في وقتٍ ثم يبدو له فيأخذ ذيله على كتفه ويدخل إلى داره داخل القاهرة ماشياً . ويقال : إنه كان هناك يحضر طلباً للمطالب . رأيت بدمشق فقيراً يعرف بجفال أخبرنا بذلك قال : أقمت عنده في ذلك المكان أحضر كل يوم بدرهم ونصف عشرة أعوام أو أكثر .
وأما جوده فكان غايةً كل من يموت له فرس من أجناده أو مماليكه يحضر كفله إلى المطبخ ويصرف له من الديوان ستمائة درهم . وإذا جرد إلى مكان لا يزال طلبه جميعاً يأكلون على سماطه ويعلقون على خيلهم من عنده من يوم خروجهم من القاهرة إلى يوم دخولها . وكان السماط الذي يمده في العيد نظير سماط السلطان . وولاه نظر البيمارستان المنصوري بالقاهرة وكان يدخل في بعض الأوقات إلى المجانين ويدخلهم الحمام ويكسوهم قماشاً جديداً وأحضر لهم يوماً جماعة الجوالقية فغنوا لهم بالكف ورقص المجانين وكان يبر المباشرين الذين به بالذهب من عنده ويطلع في الليل قبل التسبيح المأذنة . وكان للمارستان به صورة عظيمة أملاكه محترمة معظمة لا يرمى على سكانها شيء ولا يتعرض إليهم أحد بأذية .
أخرجه السلطان أول سنة أربع وثلاثين وسبعمائة إلى نيابة طرابلس فحضر إليها وأقام بها مدة وبالغ في طلب الإقالة وأن يكون مقيماً بالقدس فرسم له بالحضور إلى دمشق . وخرج الأمير سيف الدين تنكز وتلقاه وعمل له سماطاً في دار السعادة وحضر الأمراء فأمسكوه على السماط وأودع الاعتقال في قلعة دمشق فأقام يسيراً ثم جهز إلى قلعة صفد وحبس بها في برج فدخل إليه بعض أهلها فقال : يا خوند ما تلبث هنا إلا يسيراً وتخرج منه لأنك دخلت في برج منقلب . فلما كان بعد أيام أخرجوه منه إلى غيره . فقال : لأي شيء ؟ قالوا له : يا خوند البرج قد انشق وتخاف أن يقع عليك . فقال : صدق ذلك القائل كان البرج ينقلب علي .
وكان له أشياء غريبة فيما يوقع بقلمه على القصص . كتب إليه إنسان وهو بدمشق نائب : المملوك يسأل الحضور بين يدي مولانا ملك الأمراء... فوقع على جانبها : الاجتماع مقدر . وكتب إليه بعض من كان بها مليحاً يطلب إقطاعاً فوقع له : من كان يومه بخمسين وليلته بمائة ما له حاجة بالجندية ! .
وكتب إليه إنسان وهو بالكرك : إن هؤلاء الصبيان قد كثرت أذيتهم للمملوك وهو يسأل كفهم عنه . فوقع له : إن لم تصبر على أذى أولادهم وإلا فاخرج من بلادهم ! .
ووقع لآخر كانت قد جرت له في الليل كائنة : قد أحصيناك وإن عدت إلى مثلها أخصيناك . وقال للأمير سيف الدين تنكز لما أمسكه : أما أنا فقد أمسكت ولكن خذ أنت حذرك منه ! .
وأقان في اعتقال قلعة صفد يسيراً ثم رسم بتجهيزه إلى الإسكندرية فأقام بها قليلاً وكان في رأسه سلعة فطلب قطعها وشاوروا السلطان على قطعها فرسم له بذلك فقطعوها فمات في الاعتقال بالإسكندرية في سنة ست وثلاثين وسبعمائة فيما أظن