/ صفحه 58/
وما من شك أيضاً في أن ذلك النوع من العناد من ناحية الفقهاء قد ترك أثره في نفوس سلاطين المماليك وأمرائهم فبدل أن يكون قضاؤهم قاصراً على ما يقوم به الحاحب من الفصل في الخصومات المدنية التي تقع بين الجنود المماليك فحسب على ما في الياسا بدءوا يتدخلون في النظر في الديون بين أفراد الشعب والفصل فيها وكان أول قضاء الحجاب بما في السياسة من الأحكام عام 753 في عهد الملك صالح بن محمد بن قلاوون إذ رسم للأمير سيف الدين جرجي الحاجب أن يتحدث في أرباب الديوان ويفصل بينهم وبين غرمائهم وكان هذا من اختصاص قضاة الشرع وكان سبب ذلك أن تجاراً من العجم شكوا إلى السلطان بدار العدل أنهم ما خرجوا من ديارهم إلا لكثرة ما ظلمهم التتار وجاروا عليهم، وأن التجار بالقاهرة اشتروا منهم عدة بضائع وأكلوا أثمانها، فأثبتوا أمام القاضي الحنفي إعسارهم وأودعوا سجنه وقد أفلس بعضهم ولم يستفيدواهم من وراء سجنهم شيئاً فرسم السلطان للأمير سيف الدين أن يخرج هؤلاء الغرماء من السجن وأن يعمل على استخلاص الديون منهم وأنكر السلطان على قاضي القضاء جمال الدين عبد الله التركماني الحنفي ما عمله ومنع من التحدث في أمر التجار والمداينات فأخرج الحاجب غرماء التجار من السجن وعاقبهم حتى أخذ التجار أموالهم منهم شيئاً بعد شئ.
قال المقريزي: وتمكن الحجاب حينئذ من التحكم على الناس بما شاءوا.
تأمل هذه العبارة الأخيرة لترى ميدان الصراع بين الطبقة الأرستقراطية المسلطة يومذاك والطبقة المستضعفة، التي ما كانت لتجد لها نصيراً إلا في رجال الشرع والمتشرعين ليصدروا لهم من الأحكام ما يوافق دين الله، والمماليك ولو أنهم كانوا لا يعبئون بهذه الأحكام إلا في الوقت الذي تظهر فيه سطوة الفقهاء فإنهم كانوا في كثير من الأحيان يحجمون عما قدموا عليه خوفاً من الثورات في البلد، وخوفاً من تعطل مصالحهم في إقطاعاتهم التي كان يقوم عليها كيانهم السياسي.
وبعد فإن كان للمماليك فضل الوقوف في وجه المغول فقد كان لهم ـ رغم تلك المعايب السالفة ـ فضل كثير من أماكن البر والعبادة كالمساجد والمدارس