والذي يظهر في تقرير معنى قوله " لن يغلب عسر يسرين " أن جملة ( إن مع العسر يسرا ) تأكيد لجملة ( فإن مع العسر يسرا ) . ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر . ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله فكان التأكيد مفيدا ترجيح أثر اليسر على أثر العسر وذلك الترجيح عبر عنه بصيغة التثنية في قوله " يسرين " فالتثنية هنا كناية رمزية عن التغلب والرجحان فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله تعالى ( ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) أي أرجع البصر كثيرا لأن البصر لا ينقلب حسيرا من رجعتين . ومن ذلك قول العرب : " لببيك وسعديك ودواليك " والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر فكانت القوة لازم لازم التثنية وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية .
وليس ذلك مستفادا من تعريف ( العسر ) باللام ولا من تنكير ( اليسر ) وإعادته منكرا .
( فإذا فرغت فانصب [ 7 ] ) تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف والعناية ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون ملل ولا ضجر .
والفراغ : خلو باطن الظرف أو الإناء لأن شأنه أن يظرف فيه .
وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءا بشيء وفراغ الإنسان . مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله .
ولم يذكر هنا متعلق ( فرغت ) وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها الرسول A كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها . فالمعنى إذا أتممت عملا من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة . ومن هنا قال رسول الله A عند قفوله من إحدى غزواته " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " فالمقصود بالأمر هو ( فانصب ) . وأما قوله ( فإذا فرغت ) فتمهيد وإفادة لإيلاء العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة . وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال . ومثله قول القائل : ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبتها أخرى .
واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروع منه وإنما هو اختلاف في الأمثلة فحذف المتعلق هنا لقصد العموم وهو عموم عرفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق ليشمل كل متعلق عمله مما هو مهم كما علمت وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ) إلى قوله ( كتابا موقوتا ) في سورة النساء .
وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به مثل قيام الليل والجهاد عند تقوي المسلمين وتدبير أمور الأمة .
وتقديم ( فإذا فرغت ) على ( فانصب ) للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال . وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني .
( وإلى ربك فارغب [ 8 ] ) عطف على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله عليه كما قال تعالى ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) .
والرغبة : طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب ( في ) . ويقال : رغب عن كذا بمعنى صرف رغبته عنه بأن رغب في غيره وجعل منه قوله تعالى ( وترغبون أن تنكحوهن ) بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف ( أن ) هو حرف ( عن ) . وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء .
وأما تعدية فعل ( فارغب ) هنا بحرف ( إلى ) فلتضمينه معنى الإقبال والتوجه تشبيها بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم ( وقال إني ذاهب إلى ربي ) .
وتقديم ( إلى ربك ) على فارغب لإفادة الاختصاص أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى .
وحذف مفعول ( ارغب ) ليعم كل ما يرغبه النبي A وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين .
A E