قال الحافظ السلفي : أخبرني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن غريب الايادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره فرآه قاعداً على سجادة لبد وهو شيخ فانٍ فدعا لي ومسح على رأسي قال : وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينه إحداهما نادرة والأخرى غائرة جداً وهو مجدر الوجه نحيف الجسم انتهى . وقال أبو منصور الثعالبي : وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر وهو ممن لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة قال : لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء وسمعته يقول : أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر انتهى .
وهو من بيت علم وفضل ورياسة له جماعة من أقاربه قضاة وعلماء وشعراء مثل سليمان بن أحمد بن سليمان جده قاضي المعرة وولي القضاء بحمص ووالده عبد الله بن سليمان كان شاعراً وأخيه محمد بن عبد الله وكان أسنّ من أبي العلاء وله شعر وأبي الهيثم أخي أبي العلاء وله شعر . وجاء من بعده جماعة من أهل بيته وقالوا الشعر ورأسوا ساقهم الصاحب كمال الدين ابن العديم على الترتيب وذكر أشعارهم وأخبارهم في مصنف له سماه " دفع التجرّي على أبي العلاء المعري " . وذكرهم ياقوت في " معجم الأدباء " عند ذكر المعري أبي العلاء . وقال أبو العلاء الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة أو اثنتي عشرة سنة ورحل إلى بغداذ ثم رجع إلى المعرة . وكان رحيله إليها سنة ثمان وتسعين وثلاث مائة وأقام ببغداذ سنة وسبعة أشهر وقصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي ليقرأ عليه فلما دخل عليه قال له : ليصعد الاصطبل فخرج مغضباً ولم يعد إليه والاصطبل في لغة أهل الشام الأعمى كذا قال ياقوت وقال : لعلّها معرّبة . ودخل على المرتضى أبي القاسم فعثر برجلٍ فقال : من هذا الكلب ؟ فقال أبو العلاء : الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً وسمعت المرتضى وأدناه فاختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالاً كثيراً . وكان المعري يتعصب لأبي الطيب ويفضله على بشار وأبي نواس وأبي تمام وكان المرتضى يبغضه ويتعصب عليه فجرى يوماً ذكره فتنقصه المرتضى وجعل يتبع عيوبه فقال المعري : لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله : .
لك يا منازل القلوب منازل .
لكفا فضلاً فغضب المرتضى وأمر به فسحب برجله وأخرج من مجلسه وقال لمن بحضرته : أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة فإن لأبي الطيب ما هو أجود منها لم يذكرها فقيل : النقيب السيد أعرف فقال : أراد قوله في هذه القصيدة : .
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني كامل .
ولما رجع المعري لزم بيته وسمى نفسه : رهين المحبسين يعني حبس نفسه في المنزل وحبس بصره بالعمى وكان قد رحل أولاً إلى طرابلس وكانت بها خزائن كتب موقوفة فأخذ منها ما أخذ من العلم واجتاز باللاذقية ونزل ديراً كان به راهب له علمٌ بأقاويل الفلاسفة سمع كلامه فحصل له بذلك شكوك والناس مختلفون في أمره والأكثرون على إكفاره وإلحاده .
أورد له الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين قوله : .
قلتم لنا صانعٌ قديمٌ ... قلنا صدقتم كذا نقول .
ثم زعمتم بلا زمانٍ ... ولا مكانٍ ألا فقولوا .
هذا كلامٌ له خبيءٌ ... معناه ليس لنا عقول