ماذا الذي تعنيه عبارة "قلب العالم الإسلامي ينبض اليوم في غزّة"؟

ماذا الذي تعنيه عبارة "قلب العالم الإسلامي ينبض اليوم في غزّة"؟

ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي تقريراً يشرح ما تعنيه عبارة «قلب العالم الإسلامي ينبض اليوم في غزّة»، التي جاءت في خطاب الإمام الخامنئي بتاريخ 3/1/2024 وكيف يمكن أن تكون غزّة النّبض الذي يضخّ الحياة في عروق الأمّة الإسلاميّة رغم ما تعانيه من قسوة الإجرام الصهيوني وكثرة الشهداء والجرحى.


كانت الجملة التي تسرّبت قبل غيرها في الـ3 من كانون الثاني/يناير من خطاب الإمام الخامنئي، الذي أُلقيَ في حسينيّة الإمام الخميني: «قلب العالم الإسلامي ينبض اليوم في غزّة». إنّ النّبض رمز الحياة والكون على قيد الحياة، فإذا أرادوا تحديد كون أحدهم حيّاً أو ميتاً، فيتفحّصون نبضه أولاً. إنّ أوّل سؤال يتبادر إلى الذهن الآن هو الآتي: كيف يمكن لمدينة تعرّضت على مدى 100 يوم لأنواع القصف والهجوم البرّي من الكيان الصهيوني، إذ قُتل أكثر من 22000 فلسطيني ودُمّر ما نسبته 60% من بيوتهم وشُرّد وتيتّم عددٌ يفوق التصوّر، كيف يمكن أن ينبض في هذه المدينة قلب العالم الإسلاميّ؟ وهل يُمكن أن تنبض الأزقّة والشوارع المرميّة عليها جثامين المدنيّين العزّل، التي قد تهوي عليها في أيّ لحظة قنابل تزن أطناناً وتسفك دماء العشرات دفعة واحدة؟

ربّما من الضروري التخلّي عن النظرة السائدة تجاه الموت والحياة من أجل فهم هذه االجملة على نحوٍ أكبر، وأن نستعين بنظّارة مختلفة عن نظّارة العصر الحديث لننظر إلى هذه القضيّة. يصعب النظر عبر النظّارة التي تعدّ الحياة الدنيا الوجود كلّه إلى غزّة على أنّها القلب النابض، فمن يضع على عينيه مثل هذه النظّارة قد لا يرغب حتّى في متابعة أخبار غزّة وأحداثها أو تقديم العون إلى أهاليها أو قد يسعى إلى النّأي بنفسه عن المعركة التي تعرّض حياته للخطر. مثل هذه النظّارة لا تعرض غزّة النابضة، بل جرح العالم الإسلامي الذي لا يلتئم. 

أمام هذه الرؤية الكونيّة، توجد نظّارة لا تحدّ الحياة بهذا العالم المادّي ولا تجعل همّها وغمّها إغراق النّفس في أنواع الترفيه والتسلية اليوميّة، بل ترى أنّ هذه الدنيا مقدّمة للحياة التي تليها. لا يوجد في هذا الفكر أساساً أيّ معنى للنهاية، ولكن مفهوم الموت يبقى حاضراً. عندما تكون النهاية غير حاضرة، يختلف تعريف الموت أيضاً.

 

الحياة والهلاك في القرآن الكريم

هذه النظرة الثانية هي ذاتها النظرة التي عدّ الإمام الخامنئي عبرها غزّة قلب العالم الإسلامي النابض. يُعدّ مفهوما «الحياة» و«الهلاك» في القرآن الكريم من المفاهيم المتجذّرة. يقول الإمام الخامنئي عند تفسير مفهوم الحياة في الآية 24 من سورة الأنفال: «"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم"ْ. ما هي هذه الحياة التي يدعونا الله ورسوله إليها؟ إنّها في كلمة واحدة هذه الحياة التي تليق بالإنسان... الحياة الطاهرة والنقيّة لا تقتصر على الأكل والتلذّذ وإرضاء الشهوات، فهذا الأمر لم يكن ليحتاج دعوة الله ورسوله، وإنّ نفس أيّ إنسان تدعوه إلى الحياة الحيوانيّة، والحيوانات كلها تسعى وراء الطعام وإرضاء شهواتها وإشباع بطونها وتكافح للبقاء ساعة أكثر على قيد الحياة. الحياة الطيّبة هي أن تكون هذه الحياة في سبيل الله ومن أجل تحقيق الأهداف السامية». يواصل سماحته شرح هذا الموضع قائلاً: «إنّ الحياة التي يستحقّها الإنسان لا تقتصر على لقمة العيش والماء، فالإنسان يحتاج هدفاً وعشقاً ومحبّة وغايات سامية وحريّة وعزّة، لو أنّهم أشبعوا بطون شعبٍ معيّن أيضاً، وسلبوه السيادة والعزّة وجعلوه منصاعاً للأوامر وذليلاً، كيف سيكون في مقدوره أن يشعر بالهناء والاستقرار؟»

کما إنّ مفهوم الموت في القرآن مفهومٌ يتخطّى موت الجسم فقط. يقول الإمام الخامنئي في تفسير الآيتين 41 و42 من سورة البراءة عن معنى الهلاك في القرآن: «الهلاك» لا يعني الموت وخروج الروح من الجسد، وإنّ «التعرّض للهلاك الأبدي» لا يعني الموت الأبديّ أيضاً. لم يُستخدم هذا المعنى في عدد من نصوص القرآن والروايات أيضاً، بل للهلاك مفهومٌ عام يعني «الزوال الروحاني والسقوط المعنوي وموت الفضائل»، ولهذا المفهوم معنى أوسع وأدقّ، لأنّ كثيرين يُعدّون في عداد الأشقياء والموتى رغم كون أرواحهم في أبدانهم. هؤلاء أشقياء التاريخ أيضاً، فأسرى الشقاء المادّي من هذا القبيل». يخاطب الله عزّ وجل المؤمنين في القرآن الكريم قائلاً: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة، 195). غاية الأمر أنّ الهلاك في القرآن لا يعني غياب التقاط الأنفاس وموت الجسد فقط، بل هو يعني الفناء والسقوط على المستوى الروحاني والمعنوي. إنّ السقوط الأخلاقي والاجتماعي وزوال ماء الوجه هلاكٌ [أيضاً]، فالسقوط في مسار التكامل وفقر المجتمع على المستوى المادّي هلاك، وإنّ كون المجتمع رازحاً تحت وطأة الظلم سقوط».

إنّ القرآن الكريم قدّم مسار الهروب من هذا السقوط وبلوغ تلك الحياة المنشودة أيضاً، وهي الجهاد في سبيل الله والصّبر على المصاعب في ذاك المسار. يُمكن سماع صوت الله من الآيتين 24 في سورة الأنفال و195 في سورة البقرة يقول للإنسان أنّ سبيل الفرار من الهلاك الحقيقي والتخلّص من قيود المستكبرين والظالمين والطريق نحو السيطرة على الوساوس الماديّة وهذه الأمور كلّها منوطة بالجهاد في سبيل الله بالمال والأنفس. «يقول القرآن الكريم إنّهم لا يُلقون أنفسهم في التهلكة مع غياب التحاقهم بالجهاد فقط، بل يجرّون المجتمع أيضاً نحو التهلكة. توضح هذه الآية أنّ كلّ مجتمع يتهرّب من المسؤوليّات الإلهيّة ولا يُبدي الاستعداد لتحمّلها... يكون قد ساق نفسه نحو التهلكة. إذاً تُنبئ هذه الجملة بعواقب السوء والعواقب المريرة لانعدام الالتحاق بالجهاد». لا بدّ أن يترافق هذا الجهاد مع الصّبر على المصائب التي تليه، ونتيجةً لهذا الصّبر، تخلّص الاستقامة والجهاد الإنسان من الموت وتُحييانه من جديد. ((1: 153-7

 

غزّة، النبض الذي يضخّ الحياة

اليوم، نجد أنّ هذا النّوع من الحياة في فلسطين وغزّة، الحياة الناتجة من المقاومة في سبيل الحقّ والصّمود في وجه الظالم المعتدي، يوجد في أعلى مستوياته. بتعبير آخر، تحوّلت قوى المقاومة الفلسطينيّة وسائر الفلسطينيّين في غزّة اليوم إلى قلب العالم الإسلامي النابض عبر إبرازهم العناصر القرآنيّة الملهمة للحياة، وضخّوا الحياة في الأمّة ومجتمع المسلمين (وغير المسلمين أيضاً). لقد غمر جهاد أهالي غزّة وصبرهم ومقاومتهم العالم الإسلاميّ بحرارة دعم المظلوم والدفاع عنه ولهفتهما، وإنّ العالم الإسلامي الذي طالته مؤامرات القوى الغربيّة وغرق في الحروب الأهليّة والخلافات بين بلدانه تكاتف اليوم ليستعيد حياته عبر دعمه غزّة. إذا كان قسمٌ كبيرٌ من العالم الإسلامي يخوض صراعات وخلافات داخليّة إثر المشاريع الظالمة والنفعيّة للدول الاستعماريّة والاستكباريّة وانعدام صحوة الشعوب وامتلاكها الوعي أيضاً، فإنّ غزّة تصحّح اليوم توجّهه وتكشف عن هويّة عدوّ الأمّة الإسلاميّة وتجمعها لتصبح صوتاً واحداً في وجه العدوّ الواحد وتقف في جبهة واحدة. لو أنّ إرادة المسلمين أصبحت محدودة بسبب هيمنة القوى الغربيّة والصهاينة، فإنّ غزّة تفكّ هذه القيود اليوم عن أقدام الأمّة الإسلاميّة.

لقد أماطت مقاومة غزّة الملهمة للحياة اللثام عن وجوه أعداء الأمّة الإسلاميّة وأزاحت عن الطاولة الحلول المهادنة للظالم كلّها التي شارفت بعض الدول الإسلاميّة على انتهاجها. كما إنّ الكيان الصهيوني وداعميه الأمريكيّين حاولوا، عبر الدفع بـ«الاتفاقيّة الإبراهيميّة» قدماً إلى الأمام، تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والدول الإسلاميّة عبر فرض القوّة والعمل خلافاً لإرادة الأمّة الإسلاميّة. أحبط "طوفان الأقصى" وأهالي مدينة غزّة هذه المؤامرة بنجاح وأحيوا قضيّة فلسطين في أوساط الأمّة الإسلاميّة مرّة أخرى. إنّ أهالي غزّة عرضوا بصبرهم وجهادهم الحقيقة الإجراميّة والدمويّة للكيان الصهيوني وداعميه، وأمريكا خصوصاً، الذين اختبؤوا خلف قناع السلام، أمام الأمّة الإسلاميّة وضخّوا مرّة أخرى الروح في نضال هذه الأمّة وحربها ضدّ الكفر والاستكبار الغربي.

منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، انطلقت مسيرات غير مسبوقة في عدد من الدول الإسلاميّة من أجل تقديم الدّعم إلى أهالي مدينة غزّة، وخاض محور المقاومة المعركة مباشرة ضدّ الكيان الصهيوني الغاصب بوصفها دعماً مباشراً لأهالي غزّة.

إذا كانت الحياة القرآنيّة هي ما ننشده نحن المسلمون، فعلينا تقوية «نبضنا» وألّا نكفّ عن شرح قصّة فلسطين و«دعم المقاومة بالسّبل كافّة». الأمّة الإسلاميّة حيّة اليوم أكثر من أيّ زمن مضى في العقود المنصرمة، وغزّة هي التي ضخّت فيها هذه الحياة